تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر المزامير – المزمور 139”
“يا ربُّ، قد اختبرتني وعرفتني. أنت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيد. مسلكي ومربضي ذريت، وكل طرقي عرفت. لأنه ليس كلمة في لساني، إلا وأنت يا ربّ عرفتها كلّها. من خلف ومن قدام حاصرتني، وجعلت علي يدك. عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها
أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشت في الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحي الصّبح، وسكنت في أقاصي البحر. فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمينك. فقلت: إنما الظلمة تغشاني. فالليل يضيء حولي. الظلمة أيضا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور. لأنك أنت اقتنيت كليتيّ. نسجتني في بطن أمي. أحمدك من أجل أني قد امتزت عجبا. عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقينًا. لم تختف عنك عظامي حينما صنعت في الخفاء، ورقمت في أعماق الأرض. رأت عيناك أعضائي، وفي سفرك كلها كتبت يوم تصورت، إذ لم يكن واحد منها. ما أكرم أفكارك يا الله عندي ما أكثر جملتها. إن أحصها فهي أكثر من الرمل. استيقظت وأنا بعد معك. ليتك تقتل الأشرار يا الله. فيا رجال الدماء، ابعدوا عنّي. الذين يكلمونك بالمكر ناطقين بالكذب، هم أعداؤك
ألا أبغض مبغضيك يا ربّ، وأمقت مقاوميك. بغضا تاما أبغضتهم. صاروا لي أعداء. اختبرني يا الله واعرف قلبي. امتحني واعرف أفكاري
24. وانظر إن كان في طريق باطل، واهدني طريقا أبديًا”.
شرح النصّ الكتابيّ:
يبدأ المرنِّم مزموره بتسليم حياته تسليماً تاماً للرَّبِّ، مُعلناً أنَّ كلّ شيء ملكٌ له. والله هو المحب خالق الكلّ.
“يا ربُّ، قد اختبرتَني وعرفتَني”
أي أنَّ المرنِّم قد مرَّ بتجارب عديدة، مكَّنت الله من أن يعرفَه جيداً، كما لو أن إنساناً يعمل لدى آخر، والتجارب تكشف حقيقته مهما كانت لربِّ عمله.
“أنت عرفتَ جلوسي وقيامي. فهمتَ فكري من بعيد”.
إنَّ الله يعرفُ كلَّ التفاصيل الدقيقة لحياةِ وتحركاتِ المرنِّم. وهنا يجب أن نتنبَّهَ إلى ضرورة التحرُّر من الفكرة السائدة التي تقول بأن الله يعرفُ كلَّ شيء، وبالتالي نحن نخضعُ لقدريَّةٍ معيَّنةٍ، والتي تجعلُنا نتساءل دوماً عن سببِ سماح الله لنا بأن نخطئَ طالما أنه مدركٌ كلَّ شيء. فالله يعرفُ ما سنفعل، ولكنَّه ليس من يقودُنا لفعل الشيء؛ لأن الإنسانَ سيفعل أمراً ما والله يعرفُ، وليس الإنسان من يفعل الأمر مضطراً لأنَّ الله يعرف. لذا علينا ألا نلقي اللومَ على الله، أو على أي أحدٍ آخر.
و الله يمتحنُ صدقَ ومسؤوليةَ الإنسان عن عمله، أو فكرِه أو تصرُّفه عن طريق الإنسان الآخر. أما إلقاء الإنسان بمسؤولية تصرُّفه على أحدٍ آخر فهو حنينٌ إلى العبودية، حتى أنه قد يُلقي باللوم على الشيطان ثمَّ على الله لائماً إياه على حرية الخلق التي تُرتكَب باسمها الخطايا، وهو الذي ينادي ربَّه بالحرية ليل نهار. ولدى الإنسان حنينٌ دائمٌ للعبودية، إلا أن الأمرَ لا يستقيم إلا بحريته، لأن هناك اقترانٌ حتميٌّ بين الحريّة والحب، إذ لا يمكن إجبارُ العبد أن يُحبَّ سيِّدَه، وهي الحريَّة الوحيدة التي يملكُها. وعندما نصلِّي المزمور، لا يمكننا أن نرمي بأخطائنا على الآخرين، ولكن نتَّخذُ قرارا واضحاً بتسليمِ حياتِنا بأكملها للربِّ، ونقبل أن الربَّ هو مَن خلقَنا، ويرانا ويفحصُ قلوبنا والكلى، ونرفضُ أنَّه الفاعل الحقيقي لكلِّ ما نفعلُه نحن.
وقد وردَ في الكتاب المقدَّس وصفٌ وحيدٌ للشيطان وهو “الكذَّاب أبو الكذَّاب”، ونحن علينا أن نبتعدَ كلَّ البعد عن الشيطانية، أي التَّكاذب لتبريرِ الأفعال أمام الله الذي “اختبرنا وعرفنا، وعرف جلوسنا وقيامنا وفهم فكرنا من بعيد”. فكذبُنا أمام الله الذي يعرفُ كلَّ شيء هو عيشٌ للوهم وتصديقٌ له، وهذا الوهم سيتحولُ إلى حقيقةٍ يصعبُ التحقُّقُ من مصداقيتها لاحقاً، وهذه هي الحالة الشيطانية التي تخلقُ عداوةً تلقائيةً بيننا وبين الله.
ومن المعروفِ أن سببَ العتبِ في كثيرٍ من الأحيان هو المحبة، إلا أن هذا العتبَ نفسَه يكون – بحجة المحبة- مدخلاً إلى العداوة إذ يتحوَّلُ إلى إدانةٍ ولومٍ، وهذا ما يحدثُ كثيراً بيننا وبين الله.
الإنسان المصلِّي هو الذي تفرَّغ من نفسه تماماً، ليملأ اللهُ الفراغ، وإلا فستكون هناك مشكلة في العلاقة. ومشكلتُنا الحقيقية ليست في إيمانِنا بالله، بل بعلاقتِنا معه. فلو كان الإيمانُ هو التصديقُ بوجود الله، لكان الشيطان أكثرُنا إيمانا، إذ إنه يصدِّق بوجود الله، ويدركُ قوتَه الحقيقية أكثر مما ندركُها نحن البشر، إلا أنه يفتقر إلى العلاقة مع الله. كما علينا أن نقبلَ فكرةَ أن الكنيسة – أي مجموعةَ الناس- التي اتخذتْ من الله خالقاً وسيِّداً ومخلِّصاً، ليستْ تجمُّعاً للقدِّيسين، بل مشفىً للخطأة، والله الذي يعرف خفايا القلوب هو الطَّبيب.
ونحن عندما نشرحُ وضعَنا بصدقٍ للطبيب، يتمكنُ من تشخيصِ المرض، ونستطيعُ أن نكذب عليه، ولكن لا يمكننا أن نكذبَ على الله لأنه عرفَنا واختبرَنا، ويعرفُ تفاصيلَ حياتِنا، ويفهمُ فكرَنا من بعيد. مهما ابتعدْنا عن الله أو اقتربْنا منه، وإن كنَّا أسوأ الخطأة، أو أطهرَ القدِّيسِين، تبقى معرفتُه الكاملة لنا ثابتةً لا تتغيَّر، وسببُ هذه المعرفة ليس أنه الله في الحقيقة، بل أنه يحبُّنا حبّاً مطلقاً. فمن يحبُّ إنساناً بحقٍّ، يعرفُ عنه أموراً يجهلُها الآخرون، فالحبُّ يكشفُ خفايا القلوب، لذا يعرفُنا الله معرفةً تامة، لأنه يحبُّ، ومن يحبُّ لا يستطيع أن يبقى مكتوفَ اليديْن إن كان حبيبُه واقعاً في ورطةٍ، فالمحبةُ هي الانتباهُ إلى الآخر وتلبيةُ حاجاتِه، وهي تخلقُ للمحبِّ عيوناً فائقةً للطبيعة، أي تختلفُ عن عيونِ البشرِ العاديِّين.
وقد وردَ في سِفر التكوين أنَّ الله قد خلقَ الإنسان على صورتِه، وكلمةُ “صورته” في النصِّ العبريِّ الأصليِّ هي “تسيلم” وتعني “صورة الصنم”، أي أنَّ الإنسانَ هو تمثالٌ عن إلهِه، أي ليس بحاجةٍ إلى أصنامٍ تُصوَّرُ الإله ليعبدها، لأن الله جعلَه سيِّداً على كل الخليقة يسمي الحيوانات والنباتات وغيرها. كما منحَ الله آدم عمراً طويلا أكثر من 900 عامٍ، معلّماً إياه أنه ليس بحاجةٍ إلى ملكٍ، لأنه من المعروف أن الملوكَ وحدَهم خالدون، أما الإنسان فيكون مكانَ الله على الأرض. و”مكان الله” لا تعني استخدام امتيازات الربِّ بحسب أهواء الإنسان، بل تعني استخدامَ جميع الامتيازات والتصرُّف بها بحسب الطريقة التي يتصرَّف بها الله. وعندما لم يستجبْ آدم لهذا، جرحَ علاقةَ الحبِّ بينه وبين الله، وخانَ الربَّ، لأن علاقةَ الحبِّ تُبنى على أساسِ الثقة، وعلى أساس أن الله يعرفُنا جيداً. وعندما نقولُ أنَّ الله يعرفُ الإنسان، لا يُقصَدُ بالقول أنَّه يعرفُ عنه، بل يعرفُه.
“مسلكي ومربضي ذريْتَ، وكلّ طرقي عرفتَ.
لأنه ليس كلمةٌ في لساني، إلا وأنت ياربّ عرفتَها كلّها.
من خلف ومن قدّام حاصرْتَني، وجعلتَ عليّ يدُك.
عجيبةٌ هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها.
أين أذهبُ من روحك؟ ومن وجهك أين أهربُ.
إن صعدتُ إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت.
إن أخذتُ جناحي الصبح، وسكنتُ في أقاصي البحر.
فهناك أيضا تهديني يدُك وتمسكني يمينُك”.
وهنا يشيرُ المرنِّم إلى أنّ الله يعرفُ جميعَ طرقِه، مجيئاً وذهاباً، ويُدركُ كلَّ كلمة على شفتيْه. كما يُناجيه معترفاً أن الربَّ قد أدركَ أمورَه جميعاً، وبأنه لا يستطيعُ أن يفعلَ أيَّ أمرٍ خارج نظرِ الله، أو أن يخفيَ شيئاً عنه، منذ البداية وحتى النهاية. كما أن الكاتبَ مقتنعٌ تماماً أنّ الله قد صوَّرَه في بطن أمه. ويعترفُ أن معرفةَ الله له ليستْ طبيعيَّةً، بل تفوقُ قدرتَه على استيعابها أو التَّوصُّل إلى معرفةِ ماهيتها. ويُعلنُ أن روحَ الله ترفرفُ فوق الكونِ بأكملِه، ولا يُمكن لأحدٍ أن يهرُبَ أبداً. وهذه الاعترافات ليستْ ليُخبرَنا المرنِّم بأن الله قد فضَحَه، بل ثقةٌ منه أن الله حاضرٌ ليَلتقطَهُ متى سقطَ، إذ تمسُكُ به يمينُ الربِّ، فهذا هو فعلُ الحبِّ. واليمين رمزُ القوَّة والقدرةِ والخبرِ السَّارِّ المشير إلى التدخُّلِ الإلهي، فقوةُ الربِّ هي التي تنتشُله، ويسوع قد طلبَ من تلاميذه عندما كانوا يصطادون وشباكُهم فارغةٌ أن يرموها في الجانب الأيمن للسفينة، والملاكُ الذي أعلنَ خبرَ القيامة كان أيضاً يقفُ عن يمينِ القبر، لذا يقفُ الكاهنُ عندما يقرأ إنجيلَ صلاةِ الصباح عن يمينِ المذبح لأن خبراً سارَّاً سيُعلِنُ التدخل الإلهي. وهذا هو الفرقُ بين الله والبشر، فنحن نحاولُ الإمساكَ بالآخر قبل أن يقعَ، ولكن متى وقعَ تخلَّيْنا عنه وتصرَّفْنا كالغرباء، وإن كانت سقطتُه خطأ بحقِّنا، تحوَّل الحبُّ إلى كراهية. أما الله، فكلَّما سقَطْنا يكتشفُ فينا أمراً ما، ويجعلُ منه دافعاً لإنقاذِنا، فما أسعدَنا بحبٍّ كهذا!
وهنا يطرح السؤال نفسه، لماذا نخافُ من خطيئتِنا إلى حدٍّ نكرهُ فيه أنفسَنا أحياناً؟ إن كان الله الذي نرتكبُ الخطايا بحقِّه لم يكرهْنا، فمِن أينَ لنا الحقُّ بأن نكرهَ أنفسَنا؟
وفي كثيرٍ من الأحيان نتحجَّجُ بضعفِنا أمام الخطيئة مُستعطِفين الله، ولكنَّ هذه الحججَ هي اعترافٌ مبطَّنٌ برغبتِنا في التمسُّكِ بالخطيئة. فأحياناً لا نتناولُ في القدَّاس الإلهيِّ بحجَّةِ أننا خطأةٌ، متجاهِلين أن المناولةَ أهمُّ من الخطيئةِ وأنَّها هي التي تحرِرُّنا. وعلينا أن نتأكَّدَ أنه مهما أخطأ الآخرُ في حقِّنا، فإن خطَأهُ لا يُشكِّلُ جزءاً صغيراً جدَّاً مما نرتكبُه نحن في حقِّ الله، لذا علينا أن نبتعدَ عن المعايير المزدوجة.
“فقلت: إنما الظلمةُ تغشاني. فالليلُ يضيُء حولي”.
الظلمةُ أيضا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور.
وإن اعتقدَ الكاتبُ أنه بإمكانِه الاختباءَ من الله في ظلمةِ الليل، فإنَّ الليلَ سيُضيء، لأن الليلَ والنهار، والظلمةُ والنورُ عند الله سيَّانٌ، ولا يمكنه التخفِّي. إلا أن الوهمَ يجعلُه يعتقدُ أن الظُّلمة تسترُه. ويسوع قد قال إن الناسَ أحبُّوا الظلمةَ أكثرَ من النور لأنهم يعتقدون أنَّهم بإمكانِهم الاختباء تحت جُنحِها. لذا ألَّهتِ العباداتُ الوثنية القديمة القمرَ أكثرَ من الشمسِ، لأنه يُمكِّنُهم من ارتكابِ فعائلِهم في ظلِّه من دون أن يراهم أحدٌ.
“أنك أنت اقتنيتَ كُليَتَيَّ. نسجتَني في بطنِ أمي”
في القِدَمِ، كانوا يعتبرون أنَّ الكليةَ هي أسرارُ الإنسان: “فأنتَ تعرفُ الكِلى والقلوب”، والله يعرفُ كلَّ شيء، لدرجة أنه يشاهدُ كيف نتكوَّن في أحشاءِ أمهاتنا.
أحمدُك من أجل أني قد امتزت عجبا. عجيبةٌ هي أعمالُك، ونفسي تعرفُ ذلك يقيناً.
ونتيجةً لكلِّ ما ذكرَهُ المرنّمُ قبلاً، يبدأ بمديحِ الربِّ، بالرغم من أن هذه الصفاتِ التي تستطيعُ فضحَ الإنسان يجبُ أن تكون مصدرَ خوفٍ عادةً. وليس الله يعرفُ كلَّ شيء فقط، بل المرنّم أيضاً باتَ يعلمُ أن الله عارفٌ بكلِّ شيء، وبالتالي يُدركُ أنَّه لا يستطيعُ الهربَ من الله، ولا يستطيعُ إلا أن يحمدَه ويسبِّحَه ويمجِّدَه، لأنه اكتشفَ أن هذه هي طريقةُ الله ليساعدَه ويهديَه، وبالتالي يطلبُ منه الخلاصَ واثقاً أنه سيُلبِّيه، لأن الله بطبيعتِه لا يرفضُ طلباً للمصلِّي الحقّ.
“لم تختفِ عنك عظامي حينما صنعت في الخفاء، ورقمت في أعماق الأرض
رأت عيناك أعضائي، وفي سفرك كلها كتبت يوم تصورت، إذ لم يكن واحد منها
ما أكرم أفكارك يا الله عندي ما أكثر جملتها
إن أحصها فهي أكثر من الرمل. استيقظت وأنا بعد معك”.
وهنا لا يقصدُ المرنِّم بالأفكار ما يفكّر به الربُّ، بل أفكارُ الربِّ عندَه وبخصوصِه. وهي لا تُعَدُّ ولا تُحصى كرملِ البحر. والكاتبُ في نومه وفي استيقاظِه يبقى مع الله إذ ليس بإمكانه الهرب.
“ليتك تقتل الأشرار يا الله. فيا رجال الدماء، ابعدوا عنّي.
وهنا يروي المرنّم لله قصَّتَه مع أعدائه، راجياً إياه أن يخلِّصَه منهم.
الذين يكلّمونك بالمكرِ ناطقين بالكذب، هم أعداؤك”.
أي أنّ مشكلةَ المرنِّم، أن أحداً ما يشتكي لله منه، ناقلاً عنه كلاماً غيرَ صحيحٍ، وهو يطلبُ من الله ألا يستمع لهذا الكلام لأنه يعرفُه المعرفةَ الحقّة. وكلمةُ المشتكي بالعبرانية تعني “ساتان”، أي الشيطان. أما ببلُغتنا نحن، فالمشتكي هو المدَّعي العام في المحكمة، وهو الذي يُشيرُ بإصبعِه إلى المتَّهم أمام القاضي سارداً جرائمَه. و”الساتان” باللغة الأصلية هو من يقفُ أمام الله ويشيرُ إلى المتَّهم. وهذا ما حدثَ في سرِّ أيوب، إذ جاء “الساتان” إلى الله – والساتان في هذا السِفر هو المدّعي وليس الشيطان كما يظنُّ البعض- واتَّهم أيوب أمام الله. والمرنِّم يرجو الله ألا يسمح بأن يقفَ أمامه هكذا وقفة. وهذا الكلام يذكِّرُنا بالصلاة الربية: “ولا تُدخلُنا في التجربة، لكن نجِّنا من الشرير”، والشرير ليس من يفعلُ بنا شراً، بل هو من يُمكن أن يَسمعَه الله ويصدِّقَه محوِّلاً إيانا إلى متَّهمين، ونحن دورُنا ألا نمنح الشريرَ مجالاً ليشتكيَ علينا، وهذا ليس طلباً نرجوه من الله، بل وعداً له.
“ألا أبغض مبغضيك يا ربّ، وأمقت مقاوميك.
بغضا تاما أبغضتهم. صاروا لي أعداء”.
والمرنّمُ يكرهُ ويبغُضُ مَن يكرهون الله، وينزعجُ ممن يُعادونه. حتى أنهم يصيرون أعداءً له أيضاً. إذ اتَّخذَ قراراً بألا يستمع إلا الى الله، وكلُّ من يتحدَّثُ بالسوء عن الربِّ يُصبح عدواً له. والشيطان قد حاولَ استجرارَ يسوع ليخضعَ له، عندما طلبَ إليه أن يرمِيَ بنفسِه من العلو، لأنّ الله في الكتاب المقدّس يقول أنه سيُرسِلُ ملائكتَه فيرفعونه لِئلا تَعثُرَ بحجرٍ رجله، فرفضَ يسوع الاستماعَ لما يقوله الشيطان عن الله. أما آدم، فقد استمعَ إلى وشوشاتِ الحية، ولو امتنعَ عن ذلك رافضاً أن يسمعَ أيّ كلامٍ منها عن الربِّ لأنه واثقٌ من معرفتِهما المتبادلة لبعضَيهما، لكُنَّا الآن في مكانٍ آخر كلِّيَّاً. وآدم قد سمعَ بأذنِه من الأفعى التي لا تسمع، أي التي لا تغيِّرُ رأيها، وأرادتْ من الإنسان أن يغيِّرَ رأيه. وبمجردِ الاستماعِ إلى كلامِ طرفٍ ثالثٍ عن الله، ندخلُ بحالة الشيطانية وتبدأ عداوتُنا مع الربِّ.
“اختبرني يا الله واعرفْ قلبي. امتحني واعرف أفكاري.
وانظر إن كان في طريق باطل، واهدني طريقا أبديًا”
وهنا يعودُ المرنّم ليطلُبَ من الربِّ أن يختبِرَه مجدَّداً، وأن يُبقيَ عيناً عليه، لأنه بالرغم من معرفتِه أنَّ الله يعرفَهُ، ومن أنّه لا يستمعُ لكلام طرفٍ ثالث، إلا أنه يعرفُ حجمَه كإنسان.
ونحن عندما نقفُ لنصلِّيَ هذا المزمور أمام الله، تَنتفي من أمامنا قصَّةُ السيِّد والعبد، وقصَّةُ ربِّ العملِ والأجير وتبقى قصَّةُ الأبِ وابنِه، وهذا هو التدرُّجُ في العلاقة مع الله. فالعلاقةُ التي تدخلُ فيها الخطِيَّة هي إما علاقةُ سيِّدٍ وعبدٍ، لأن العبدَ دوماً يخافُ سيِّدَه، وبالتالي يرتكبُ أموراً بالخفية، أو علاقةُ أجيرٍ بربِّ العمل، لأنه ينتظرُ منه أجراً ومصلحةً. أما الابنُ فلأنَّه وارثٌ لكلِّ شيء من أبيه ليس مُضطراً لتخبئةِ أيِّ شيءٍ، وهذه أصدقُ علاقةٍ. ولم يتحدثْ العهدُ الجديد كلُّه صدفةً عن أن الله لديهِ ابنٌ، لأن العلاقةَ السليمة الوحيدة هي علاقةُ البنوّة. ويسوع هو ابنُ الله الشرعي، ونحن أبناء الله بالتبنِّي، وأصبحْنا نتمتعُ بالحقوقِ الشرعية ذاتِها التي يتمتعُ بها الابنُ الحقيقي.
فإذا كنَّا نملكُ حقوقَ يسوع نفسَها، لماذا لا نتصرَّفُ على مثاله؟ في الحقيقة لأنَّنا لم نصلْ بعد إلى مرحلةِ الابنِ وأبيه، بل ما زلنا في حالةِ العبدِ والسيِّد، والأجيرِ وربِّ العمل، ولم نصدِّقْ بعد أن الله هو أبونا، أي لم نصدِّق أنه يحبُّنا كما أحبَّ يسوع، لذا نبتزُّ الله ونجرِّبُه من خلال محبَّته لنا ليُلبِّي حاجاتِنا السخيفة، ناسين أنَّ الله بإمكانه أن يأتيَ بأبناءٍ لابراهيم من الحجارة. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَ الشرح بأمانةٍ من قبلنا.