تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“سِفر المزامير – المزمور 93” 

“الربُّ قد مَلَكَ والجلالَ لبِسَ. لبِسَ الربُّ القوّةَ وتَمَنْطقَ بها. لأنه ثبَّتَ المسكونةَ فلا تتزعزعُ. عرشُكَ قائمٌ منذُ القِدَمِ. وأنتَ كائنٌ منذُ الأزلِ. رفَعَتِ الأنهارُ يا ربُّ. رفَعَتِ الأنهارُ أصواتَها. الأنهارُ ترفعُ أمواجَها. أصواتُ المياهِ الزاخرةِ تتجاوبُ. فما أعجبَ أمواجَ البحرِ. بل ما أعجبَ الربَّ في الأعالي! شهاداتُكَ راسخةٌ جداً. ببيتِكَ تليقُ القداسةُ يا ربُّ مدى الأيام”.

شرح النصّ الكتابيّ:

قد تختلفُ بعض الترجمات عن بعضها الآخر تبعاً لمراعاة المترجم للرنة الشعرية، إذ إن المزامير قصائد.
تستوقفنا في بداية المزمور عبارة “الربُّ قد ملَكَ”، مع علمنا بأنَّه لم يملك أحد قبل الله، فلمَ لم يفتتح الكاتب مزموره بـ “الرب ملكٌ”؟ لقد قصد الكاتب في الحقيقةِ أن يستخدمَ الفعل “مَلَكَ”. لا وجودَ لمملكة من دون ملك. وفي النظام الملكي، يَصدر الدستور يومياً من فم الملك، وله أن يغيِّره متى شاء. والمملكة تبقى بخير، طالما أنَّ الملك موجودٌ وفاعل، وإن ضعف الملك أو مرض تعرَّضت مملكته للخطر، فأمانها واستمراريتها مرتبطان به وبقوته. أما الخطر الذي قد تتعرض له المملكة فهو إما داخلي أو خارجي. الخطر الخارجي يتمثل في العدو الذي قد يهاجمها، والملك هو حاميها في هذه الحالة. أما الداخلي فهو تمردٌ وعصيانٌ نتيجة لارتكاب الملك أعمالاً لا توافق العدل أو الرحمة، وقد يتحول إلى ثورة إن قُمِعت بظلم توالت المشاكل والأخطار، وإن عومِلت برحمة نجت المملكة. فالملك يحمي مملكته خارجياً بالقوة وداخلياً بالعدل والرحمة.
ولا توجد مملكةٌ وعلى رأسها ملكان، بل عرشٌ واحد. تبقى المملكة بخير إن وُجِد فيها ملكٌ واحدٌ لا يتنازل عن عرشه إلا بموته أو قتله أو أسره – إذ يبطل المـــُلك عند أسر الملك ويأتي ملك آخر جديد – ولا وجود لمصطلح ملك سابق أو متقاعد.
إذاً أثناء تأدية الملك لفعل الملكيّة هو ملكٌ، وعند توقفه عن الفعل يُخلَع عنه وصف الملك، لذلك يبدأ المزمور بقوله “الرَّبُّ قد مَلَكَ”، أي الرب يمارس فعل الملكيّة، لذلك هو حتما ملكٌ. ولكي يكون الملك فاعلاً على رأس مملكته عليه أن يواجه أموراً ثلاثة: عدواً – معركةً – انتصاراً، وإن لم ينتصر بطل ملكه. وهنا نستطيع التفكير بالمسيح المنتصر القائم من بين الأموات: عدوه الموت/الشيطان، اعتركا على الصليب، وانتصر يسوع بالقيامة. والمسيح مازال منتصراً لأنّه مازال قائماً من بين الأموات حتى يومنا هذا، ولم يمت كلعازر بعد قيامته بفترة. وطالما المسيح قائم من بين الأموات نقول نحن: المسيح قام، مستخدِمين فعل القيامة، أي أنَّ يسوع قد ربح معركته مع عدوه مدى الحياة، لذلك نُعيِّد القيامة دائماً. 

وهناك تأكيد آخر على انتصار المسيح وملوكيّته، وهو أنَّه “آتٍ في آخر الزمن”، فهو قائم حتماً لأنَّ الميت لا يأتي، وبالتالي هو منتصر على العدو دوماً، لأنه إن ربح العدو مرة أطاح بالملك. وفي بروتوكول الممالك، لا يُعلَن موت الملك إلا بإعلان استلام ملك جديد “مات الملك – عاش الملك” في صرخة واحدة. فالملكُ إذاً لا يموت بموته، بل عندما نُعلن وفاته، فيملك ملك جديد عند إعلان ملكيته. وهنا في المزمور يعلن الكاتب ملكية الله في الصلاة، غير مهتم بما كان قبل ذلك، بل بما هو الآن عليه تحت سلطة الرب، وبعدها يستدرك ليقول بإن الله ملك منذ الأزل لأنَّه “ثبت المسكونة فلن تتزعزع”، وطالما المسكونة بخير فالملك موجود وثابت على عرشه.

وعند اجتماع المجامع المسكونيّة السبعة في الكنيسة الأولى، كانوا يضعون الإنجيل في وسطهم معترفين بأن المسيح حاضرٌ بينهم ملكاً عليهم، ويصدرون قراراتهم على هذا الأساس باسم الكنيسة المملكة. وفي أعمال الرسل، عندما اجتمع الرسل أصدروا بياناً ورد فيه “هكذا قال الروح القدس ونحن”، إذاً مفهوم الملكيّة يعشِّشُ في العقول ولا يمكن لأحد أن يخرج عنه. حتى في يومنا هذا في الشرق الأوسط، الأب هو ملك على الأسرة، ورئيس القبيلة ملك على قبيلته.

والملك المتسلِّط على شعبه يصبح هو العدو الأول للملكة، لأنه لا يحقق العدل والرحمة. وهنا نفهم أحاديث الأنبياء الذين هاجموا الملوك؛ إشعياء، إرميا، حزقيال وإيليا الذي وقفت إيزابل في وجهه هاتفة: “أأنت مقلق إسرائيل؟” لأنه تهجَّم على الملك الذي لم يحقق إرادة الله الذي عيَّنه. وفي مثل هذه الحالة يصبح الملك عدوّ الله، فيأخذ منه الوكالة التي أعطاه إياها، وتحدث بينهما معركة ينتصر الله فيها حتما. لذلك اعتاد الشعب أن يقول في العهد القديم: “الله ضربنا لأننا لم نحفظ وصاياه”، لذا هُدِم الهيكل وسُبي الشعب اليهودي. فالله إذاً لا يسمح لأحد بأن يضعضع مملكته. فالكتابة في العهد القديم لها معان مهمةً جداً وإن كانت مخيفة نوعاً ما.

“الرب قد ملك والجلال لبس”، فالملك إذاً ذاهب إلى المعركة وهو يرتدي درعه – “الجلال لبس”، أي العظمة- “لبس الربّ القوّة وتمنطق بها”، أي الحزام الذي يُرتدى أخيراً فوق لباس الحرب ويشد كلّ شيء. إذاً صاحب المزمور يهيئنا للمعركة منذ البداية. عادةً يكون هناك عدو، تحدث معركة وبعدها يعلن الانتصار، أما في المزمور فهناك عدو وارتدى الملك ثياب الحرب ثم انتصر وفي النهاية تحدَّث عن المعركة، لأنَّ الله ليس كأي ملك “ثبَّت المسكونة فلن تتزعزع” أي أمن ملكيته إلى الأبد، ولا توجد معركة بعد هذا. ثم يؤكد الكاتب “عرشك قائم منذ القدم”، والقدم تعني أبعد مدة يمكن لعقولنا أن تعودها إلى الوراء، ملكية دائمة، “وأنت كائن ثابت منذ الأزل” على العرش.

وبعدها يبدأ الحديث عن العدو؛ “رفَعَتِ الأنهارُ يا ربُّ. رفَعَتِ الأنهارُ أصواتَها. الأنهارُ ترفعُ أمواجَها. أصواتُ المياهِ الزاخرةِ تتجاوبُ.” قال رفَعَت (في الماضي)، ثم رفعت (في الماضي) ثم ترفعُ في الحاضر، أي العدو يحاربُ منذُ القدم ومازال ولكن الله قادرٌ ومسيطرٌ، لذلك نحن لا نخاف. وهذه الصورة هي صورة العدو، وليست صورة تسبيح الأنهار لله، إذ في القدم كانت المدن تبنى على أعمدة وتحتها مياه تضرب الأعمدة باستمرار إلى أن تسقط المدينة وينتهي المــــُلك. والأنهار ليس لها موج، بل هو هنا يستعيرُ صوت الموج المتكسر على الصخر ليصف قوة العدو، ومهما كان العدو لنا “الخطيئة، الشيطان..” نحن لدينا أمانة بأن الله أقدر “بل ما أعجبَ الربَّ في الأعالي!”.

بعد ذلك يأتي التسبيح “شهاداتُكَ راسخةٌ جداً. ببيتِكَ تليقُ القداسةُ يا ربُّ مدى الأيام”، وعبارة “ببيتك تليق القداسة يا رب” هي إضافةٌ خارج سياق الحديث، وكأنه يعلن انتصار الله على العدو الخارجي، ولكنه يؤكد بأنَّ هناك شيئاً آخر ليكتمل هذا الانتصار؛ غلبة العدو الداخلي. لذلك تحدَّث عن القداسة، إذا أمَّن القداسة في الداخل فلا توجد ثورة بعدها.كلمة عصيان بالعبراني تعني Peshaa وهي بباقي اللغات تعني “الخطيئة” أي التمرد في البيت. وهكذا يعلن صاحب المزمور ملكية الله بانتصاره على الخارج “العدو” وعلى الداخل بتحقيقه القداسة في بيته “بالذين يسمعون ويحفظون كلام الرب”، وعندما نتصرف كخطأة نصبح نحن المتمردين وأعداء الله. فيتعارك معنا نحن، ونصبح نحن عدوه الخارجي لأننا لا نحقق إرادة الرب بالطاعة، كما قال يسوع لبطرس: “اذهب ورائي يا شيطان”، وكأنه يقول احتم بي ولا تخف، ما هذه الخطيئة إلا نتيجة الخوف. حتى في قصة الصلب نجد أنه عند استهزاء الجند بيسوع ألبسوه الأرجوان وأعلنوه ملكاً منتصراً. وهناك معركة أخرى هي معركة الصليب، وكان التسبيح بعدها من ضابط وثني قال: “حقاً إن هذا هو ابن الله”.

وعند قراءتنا لهذا المزمور علينا أن نكون نحن أرض المعركة ونحن العدو والملك هو الله، والحل لدخولنا مملكته هو الاستسلام، أي أن نُسلِم أنفسنا إليه معترفين بانهزامنا لأننا تبعنا غيره والحل هو التوبة، أن نترك غير الله ونلحق به وحده، ونعلن انتصار الله باعترافنا. أي أنَّ الاعتراف – الذي هو جزء من سر التوبة – هو إعلان لملكية الرب وخسارة الإله الذي كنا نتبعه، هو الاعتراف بأن الله هو ربنا الوحيد.

وفي سر المعمودية أيضاً حيث الماء هو المعركة، لأنه يؤدي إلى الغرق، ولكن الطفل يخرج من الماء حياً، معلناً انتصار الإله الذي يتبعه. والماء دوما هو صورة للمعركة والعدو، لأنه يميت، حتى في سر الاعتراف هناك ماء، إذ يدمع الإنسان معترفاً وتائبا. وصورة الأنهار في المزمور أيضاً هي صورة الماء العدو. وفي سفر التكوين في جميع أيام الخلق يقول: “ورأى الله أن ذلك حسن”، إلا في اليوم الثاني، يوم خلق المياه. وفي معمودية المسيح، حضر صوت من السَّماء بعد خروج يسوع من الماء منتصراً “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”. إذا فالماء هو فكرة العداوة، ولكنَّ الله الذي “ثبت المسكونة فلن تتزعزع” قد روَّضها “والتنانين تلعب في المياه” (مز:103) ، وطالما المسكونة ثابتة فالرب منتصر، وليست صدفة أن يبدأ المزمور بفعل “مَلَكَ” ليروي لنا هذه القصة بأكملها.

أما في العهد الجديد، فيمكننا أن نفهم قصة يسوع والقيامة بهذا المنطق إذا قرأنا الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 15: “أين شوكتكَ يا موت وأين غلبتكِ يا جحيم؟.. ابتُلِع الموت”. وانتصار المسيح على الموت يعني أنَّ الموت لا زال يصارع، ولكنَّ الرب يسوع لا زال ينتصر عليه بواسطة بعض القديسين في عالمنا الذين لا يسمحون للموت أن يهزمهم، وطالما هناك شخص واحد لم يهزمه الموت، إذاً لا يستطيع الموت أن يملك. على الشيطان أن ينتصر انتصاراً كاملاً ليملك، ووجود قديس واحد يعني أن الله لا زال الملك.

وكما عائلة الملك وحدها يحق لها دخول جناحه، كذلك عائلة الله وحدها يحق لها أن تدخل إلى ملكوته، وهذا ما نناله في القداس في سر المناولة، إذ يعترف الله بنا أبناء له بالرغم من كل فقرنا الروحي. وفي سر الكهنوت، الكاهن هو خادمٌ لله الأوحد، صورته على الأرض، وطالما يعمل الكاهن أو الأسقف على تفعيل كهنوته يبقى كاهناً أو أسقفاً، ومتى مات يُغطَّى وجهه بستر القربان، لأنه يعيشُ حياته مقدماً القربان وفي موته يستحيل هو قرباناً..

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp