“سِفر المزامير – تاريخها وأنواعها”
سنقرأُ في هذا الموسم نصوصاً من أحدِ كتبِ العهدِ القديم، وهو كتابُ المزامير، واسمه “سِفرُ المزامير”. وكلمة “السِّفر” تعني “الكتابَ”، في حين أنَّ كلمةَ “مزمور” تعني النَّشيدَ أو التَّرنيمةَ.
وتاريخُ كتابةِ سفرِ المزامير ليس واضحاً، وهو حتماً لم يُكتب في فترةٍ واحدةٍ، ولا من قِبَلِ شخصٍ واحدٍ، إذ إنَّهُ تراثٌ، كالتُّراثِ الكنسيِّ تُزادُ عليه صلاةٌ في كلِّ مرحلةٍ، يَختَبرها الشَّعبُ ويُدخِلُها في حياتِه اللِّيتورجيَّة، وهكذا المزامير. ولكن كما يُنسَبُ كلُّ كتابٍ إلى مؤلِّفٍ واحدٍ – كُتُب التَّكوينِ والخروجِ واللَّاويِّينَ وغيرها نُسِبَت إلى موسى علماً أنَّها تَذكُرَ كيفيَّةَ موتِ موسى، والحكمةُ نُسِبت إلى سُليمان وقيلَ إنَّه وضعَ كلَّ كتبِ الحكمةِ والأمثالِ وذاكَ لأنَّهُ أصبحَ رمزاً- هكذا نُسِبَتِ المزاميرُ إلى داودَ الذي لُقِّب بالملكِ، وهو لقبُ كلِّ من كان يتقدَّمُ الصَّلاةَ في الهيكلِ قديماً.
من الممكنِ أن يكونَ داود قد كتبَ بضعَ مزامير، ولكنَّ المؤكَّدَ أنهالم تُكتَب في فترةٍ زمنيَّةٍ واحدةٍ، إذ إنَّ بعضَها يتحدَّثُ عن أورشَليم في حين يتحدَّثُ بعضُها الآخر عنِ تهدُّمها ويتمنَّى إعادة بنائِها “ولتُبْنَ أسوارُ أورشليم” (مز:50). كانت هذه لمحةٌ عامَّةٌ عن “سِفر المزاميرِ” إلَّا أنَّ ما يهمُّنا حقَّاً هو “المضمون”.
بعدَ مرورِ زمنٍ طويلٍ، وخاصَّةً بعدَ مجيءِ الرَّبِّ يسوعَ، بتنا نقرأُ المزاميرَ من خلالهِ، إذ لا يمكنُ لنا أن نقرأَ نصَّاً منها دونَ أن نُسقِطَهُ على حدثٍ ما في العهدِ الجديد. فمثلاً، عندما نقرأُ “إلهي إلهي لماذا تركْتَني؟” في بدايةِ المزمورِ 28، نجدُ أنَّ هذا ما قالَهُ يسوعُ على الصَّليب. أي أنَّنا بتنا نعتبرُ هذا الكتابَ نبوءة عن يسوع َبعدما رأيناه وعرفنا ما عاشه، فصرنا نقرأُ المزاميرَ في ضوءِ المسيحِ. إلَّا أن الكُتَّابَ لم يعرفوا المسيحَ، وكتاباتُهم لا علاقةَ لها بالرُّؤيا أو النُّبوءة. هم فقط كتبوا لشعُوبِهم في حالاتٍ معيَّنةٍ، ليخرجوهم من حالة البعدِ عن الله والرَّتابةِ والخطيئةِ، ويعيدوهم إلى حالةِ التَّقرُّب من الرَّبِّ والتوبة وإعادة العهدِ والتَّعهُّدِ من جديدٍ.
فالمزاميرُ، في كلِّ مرَّةٍ، هي تثبيتٌ لتعهُّدِنا أمامَ اللهِ بالوعدِ الذي قطعناهُ على أنفُسِنا له. ومَن يُصلِّي المزاميرَ عليه أن يشعرَ بالفقرِ، فعندما نُصلِّي المزامير ونحنُ نشعرُ بأيِّ نوع من أنواع الغنى في أيَّة ناحيةٍ من نواحي حياتنا، لن نُصلِّيها بالشَّكل الصَّحيح. وهذا الفقر ليس ماديَّاً فقط، بل هو الفقر الذي يجرِّدنا من كل ما تباهينا بغنانا به قبل أن نبدأ بصلاة المزامير. فمثلاً، من يفرح بجماله أو علمه أو ذكائه، عليه أن ينساهُم عندما يُصلِّي المزامير كي لا يَفتخِرَ بأي شيء أمام الرَّبّ. علينا أن نكون في فقر مُتقع حينها، لا نملك شيئا نتباهى به، فنتعلق بالله وحده. فالمزامير إذاً هي للفقراء أو للذين يغتنون بالله فقط، أو للذين يفتقرون أمام الله لأي شيء، وسوى ذلك يتحول المزمور إلى تمتماتٍ وسحرٍ.
وللمزامير أنواعٌ عدَّة، فبعضها يختصُّ بالرَّحمة، وبعضها الآخر يروي تاريخاً (تاريخ عمل الله في الشَّعب اليهودي)، وهناك مزامير تتحدَّث عن “المسيح الملك”، ومصطلح “مسيح الله” يعني من عَيَّنهُ الله ليقودَ الشَّعب وليس المسيح الذي نعرفه حالياً. فعندما نقول يسوع “المسيح”، نعني من اختاره الله ولكن لأداء عمل أرادَه الرَّب وليس النَّاس، في حين يعتقد الشعب اليهودي أنَّ يسوع المسيح بمجيئه سيعمل ما يريدونَه. الله ليس مُلَبِّي طلبات البشر، وأخطر ما في الصَّلاة أن نجعل منها عرضاً لطلباتنا أمامَ الله ليلبِّيها، لأنَّه إن لم يفعل سننقم عليه ونلومه. نحن من عليه أن يتعهَّد في الصَّلاة بتلبيةِ طلبات الله. وانطلاقاً من أنَّ التَّصوير الصَّحيح لأي علاقة مبنيَّة على المحبة بين شخصين هي أن يستمعا لبعضهما ويتحدَّثا عن معاناتهما دون أن ينتظرا من الطَّرف الآخر تلبيةً لطلباتهما. نحن نطلبُ من الله، هذا ما تتضمَّنه الصَّلاة، ولكن إن تمادَينا، يصبحُ اللهُ خادماً لنا من تَعيينا وبحسب رغباتنا، في حين أنَّهُ ارتضى أن يكونَ خادماً لنا بحسب طلباتِهِ هو، لأنه يحبُّنا أكثرَ ويعرف صالحنا أكثر. الله يلبي حاجاتنا التي يراها مُحقَّة في الوقت الذي يراه مناسباً.
إذاً، هناك عدَّة أنواع من المزامير. فالمزامير التاريخيَّة مثلاً مضجرةٌ لأنّها تروي أحداثاً، وهذا سنفهمه لاحقاً من مفهوم اللِّيتورجيا.
أمَّا المزامير الملكية فهي تخبر بأنَّ اللهَ هو الملكُ الوحيدُ. في العهدِ القديمِ، آمن النَّاس بأنَّ الله هو ملكهم الوحيد، ولكن عندما رأوا شعوباً أخرى على رأسها ملوك أرضيِّون، سألوا الله أن يضعَ على رأسهم ملكاً كالبقيَّة. فأجابهم بأنَّه هو الملكُ، فرفضوا وأرادوا أن يصبحوا كسائر الشُّعوب، متحجِّجين بأنَّ الله إلههم في السَّماء والملك الأرضي يحكمهم على الأرض. فاستجابَ الله لهم، محذِّراً إيَّاهم من لحظةٍ سيندمون فيها على ما اختاروا. وأتاهم أوَّلاً الملك شاول، ثم داود ومن بعده سليمان، وهكذا توالى الملوك فانقسمت اسرائيل وتهجَّر شعبها وتبدَّد، فعادوا يرجونَ الله أن يُرسل لهم ملكاً من اختياره هوَ، فطلبَ منهم الانتظار. ثم أرسل إليهم ملكاً، لا يشبه الملوكَ، ولايملك سلطتهم أو سلطة القضاة ولا يتعامل بالقوة، فرفضوه. ما عدا مجموعة صغيرة من العشيرة اليهودية ذاتها، عرفوا أنَّ يسوعَ هو من تحدَّث عنه اللهَ في العهد القديم، فتبعوه. تبعوه لأنَّهم في حاجةٍ له مستندين إلى ما جاءَ في العهد القديم.
قيل في المزامير: “اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي اقترعوا”، وجاء في الإنجيل أنَّ الجندَ عندما اقتسموا ثياب المصلوبِ، وجدوا قميصاً مصنوعاً من قطعةٍ واحدةٍ لا يُقسم، فاقترعوا عليه. وهذا النَّوع من القمصانِ كان عادة رداءَ رئيسِ الكهنةِ في العهد القديم، أي أنَّ يسوعَ على الصَّليبِ كان هو رئيس الكهنةِ الذي يُقدِّم الذبيحة، وكان هو الذبيحة.
عندما تقرأُ الكنيسةُ هذه العبارة السَّابقة، لا تستطيع التفكير إلا بحادثة الصَّلب، ولكن علينا عندما نقرأُ المزمور بُغيةَ تفسيرِه كما كُتِبَ وقتها، علينا أن نُغفِلَ المقارنةَ بينَهُ وبينَ حياةِ المسيحِ، لأنَّه لم يكتب وقتها ليتكلَّمَ عن يسوع بل عن الله الملك. مثلاً: “الرَّبُّ قد ملكَ والجلالَ لبس، لبسَ الرَّبُّ القوَّة وتمنطقَ بها لأنَّهُ ثبَّتَ المسكونَةَ فلن تتزعزع” (مز 93)، وهذا المزمورُ يتحدَّث عن الله الملك، أي من صلَّى المزمور – نُسِبَ إلى داود الملك – كان ملكاً وصلَّى إلى الله الملك، أي تخلَّى عن ملكيَّته وافتقر. المزمور هو لقاءٌ بين الله وبين الجماعة المصليَّة على أساس أنَّها ستكتشفُ الآنَ عملَ الله فيها، وإلا يُصبح ترداداً، كما يصلِّي أغلبنا في الكنيسة اليوم، لا يستمعُ إلا لبضعِ كلماتٍ ممَّا يقول، وتتحوَّل الصَّلاة إلى تمتماتٍ غريبةٍ كأغنيةٍ عابرة. يعتقد الناس أنَّ الصّلاة القلبيّة هي المفضلة حيث نصلّي بقلوبنا صامتِين. ولكنَّ هذه مجرد تركيبات فلسفية، إذ لا فرق بين القلب والعقل. فمعنى قلب بالعبرية “لب”، واللُّب هو الكيان بأكمله، والعقل هو الكيان. إذاً هناكَ انسجامٌ بين العقلِ والقلبِ في صلاة المزمور، أي ما نفهمه بالصّلاة نحياه في القلب.
إنَّنا إذا بدراستنا للمزامير متَّجهون نحو وقفة أمام الله فيها تعهُّدٌ على مستوى القسم. وفي كلِّ مرةٍ نقف للصَّلاة علينا أن نتذكَّر أننا خطأة، حتى إذا كان لدينا بعض من القداسة والعمل الطيب، علينا أن ننساها عند قراءةِ المزاميرِ لئلَّا نفتخر ونصبحَ كالفرِّيسيّ، إذ يجدر بنا أن نكون دوماً كالعشَّار ونهتف “يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا عبدك الخاطئ”. فالله يرى فضائلنا ولا حاجة لنا أن نسعى لنريه إياها، ولا يجب أن تدغدغنا. فلا يفترض بنا أن نتفيَّأ ظلَّ شجرة فضائلنا لنرتاحَ، بل يجبُ أن ننطلق من هناك، لأننا إن تأخرنا سيفوتنا الكثير. تقول الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي أنه علينا أن نزيد حياةً على سنيِّنا بدل أن نزيد سنيناً على حياتنا، فالوقت قصير وعلينا أن ندرك معناه فلا نسمح له بالمرور دون استثماره.
فصلاةُ المزامير، كأيَّة صلاةٍ أخرى، تضعنا في حالة من اليقظة والوعي، وليس بحالة من السَّهو. ففي الجبل المقدس مثلاً، يُقيم الرُّهبان سهرانياتٍ طويلة، ويصلون لساعات وساعات، ولكنهم يتحركون في الكنيسة ويتحدثون قليلاً، فأهميَّة الصّلاة في الواقع أنها تجعلنا نعي حقيقة حياتنا، لا أن تسلخنا عنها. إذاً، يجبُ أن يكون رأسنا في السماء عندما نصلّي في حين تبقى قدمانا على الأرض لئلَّا تتحوّل صلاتنا إلى حالة من السُّكر. عند حلول الروح القدس على الرُّسل، اتُّهِموا بأنهم سكارى، ولكن عندما وعظ بطرس بالجموع بلغة فهمها الجميع، آمن 3000 شخص بالرب. هم لم يؤمنوا عندما أبصروا حلول الروح العجيب، بل عندما تكلم بطرس برأس في السماء وقدمين على الأرض، مبرهنا حلول الروح القدس فيه.
الكلمة هي الفاعلة، هي التي تزرع، وهي التي تصور الحقيقة في رؤوسنا. والمزامير كلمات مصفوفة بشكل شعر موزون، مكتوبة بلغة عبريَّة رصينة، أهم من تلك العربيَّة التي كتب بها القرآنُ على بلاغتهِ. وتنعكس أهمية التَّوازن والتوازي في شكل المزمور على مضمونه.
وقد أعطي الله العديد من الصفات في المزامير؛ الملك، الله، أَليل (أي الله-يا إلهي). مَن يصلّي المزامير يصلّي لإلهه الذي هو الله، وليس لله الذي هو إلهه. إلهنا هو الله، آمنا به واعتبرناه إله كلّ شي، والعكس ليس صحيحاً، فليس لأنَّنا تعرَّفنا على الله إله كلِّ شيءٍ، قبلنا أن يكون إلهنا. أي تبدأُ الخبرة من كل فرد فينا ثم تعمم، فالله انطلقَ في العهدِ القديمِ من أورشليم، من المكان الخاصِّ، ثم توزَّع على العالم، وفي العهدِ الجديدِ انطلقَ من يسوعَ، من شخصٍ وليس من مدينة، ثم تعمَّم. والآن ينطلق الله من كل شخص فينا، فكلُّ فرد منا هو “مدينة الله العظمى”.
وقد قرر الله أن يبدأ بإنقاذ العالم، وعليه أن يبدأَ بشخصٍ تلو الآخر، فعندما نصلِّي المزامير نقف أمام الرب معبِّرين عن جهوزيَّتنا ليبدأ مسيرة خلاصه بنا. ولكي يبدأ الله بنا، يجب أن نكون خطأة، ولا داعي أن نتطهَّر قبلاً. عندما أراد الله أن يكلِّم الشَّعب قديماً، اختار أشعياءَ وطلبَ منه أن يبلِّغ الناس رسالته، فاستغرب أشعياء لأنه “إنسانٌ دنس الشفتَين، بين شعبٍ دنس الشفتَين”، فأرسل الله ملاكاً بجمرة نارٍ مرَّرها على شفتَيه مطهراً إيَّاهما “ها الآن قد طُهِّرَت شفتاك”، وبدأ بعدها أشعياء برحلته. أي أنَّ الربَّ اختار إنسانا مثلنا، فاختيارنا كرسل لرسالة الرب لا يتطلب منا أن نكون صالحين تماماً، بل فقراء لا نملك شيء، ولسنا بشيءٍ ولكنَّ الله يجعلنا كلَّ شيء بكلمته، ومتى انفصلنا عنها عدنا لاشيء. وهكذا الكهنة والأساقفة، طالما هم يُفعِّلونَ كهنوتهم بالكلمة الإلهية، يبقون كهنة وأساقفة ولكن إن انفصلوا عنها باتوا لاشيء. لذلك يتوقف بعض الكهنة عن الكهنوتيَّة في الكنيسة المشرقيَّة، ويعودون علمانيِّين من جديد. فعندما ننفصلُ عن كلمةِ اللهِ نفقدُ كلَّ امتيازٍ يمكنُ لنا أن نتباهى به، وهذا خطأُ اليهود، إذ أعطاهم الله أرضاً وقداسةً وهيكلاً، لكنَّهم تخلُّوا عنِ اللهِ ومع ذلك بَقَوا يطالبونه بما أعطاهم، فطردهم الله.
والوقوف أمام الله عند صلاة المزامير يتضمَّن دينونةً أيضاً. فعند صلاة مزامير السَّحر السِّتة في الكنيسة المشرقيَّة، يقفُ المصلِّي ثابتاً دون حراكٍ، لأنَّهُ ينتصبُ أمامَ الدَّيَّانِ منتظراً حكمَه عليه، ومُفتَتحاً صلاته ب”المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي أناسي المسرة”. “وفي أناسي المسرة” تعني في النَّاس الذين رضي الله عنهم لأنَّهم حفظوا وصاياهُ. أي في المزامير نحن نُكرِّر القسمَ أمامَ الله بأنَّنا حافظونَ لوصاياه، فإن كنَّا فعلاً حافظينَ لهم قلناها بأريحيَّة، وإن لم نكن، قلناها بخجلٍ، ولكن يبقى علينا أن نصلِّي دوماً، لأنَّنا إن لم نفعل نكون قد قررنا أن نقطع علاقَتنا بالرب نهائيَّاً. وإن صلَّينا حتى بدون أن نصون الوصايا، نكون على الأقل قد صُنَّا علاقتنا مع الرب وكنا أمناء عليها، فيشدِّدنا الله لنفعل إرادته من جديد، وهذا هو الرجاء الذي يمنح إلينا في الصّلاة. فالصَّلاة إذاً لها طابع الدينونة، وطابع الرجاء، وبالتالي فإن طابعها الأساسي هو طلب الرحمة. يعتقد النَّاس أن طلب الرَّحمة يعني غفران الخطايا، إلَّا أن هذا جزءٌ بسيطٌ جداً. فطلبُ الرحمة يعني أن يعيدنا الله إلى رحمه، فنصبح كالجنين الذي يسكن رحم أمه حيث الحياة والأمان وحيث يتقبَّل كل ما يصله عبر الحبل السِّري دون أن يسأل كيف ولماذا، فينمو نموَّاً طبيعيَّاً.
وعندما نصرخ “يا رب ارحمني”، أي أعدني يا ربُّ إلى هذه الحالة، حيث أكون جنيناً في رحمكَ وأنتَ من يُغذِّيني، أعودُ وليسَ لي قرار. الفقرُ المتقع الأخيرُ يعني ألَّا نملك القرار. وفي صلاة المزامير نقف أمام الله لنقول له: “أنا لا أملك قراراً اليوم، قرر أنت لي”، أي نسلِّم له أنفسنا بشكل كامل. والتَّسليم يختلف عن الاستسلام الذي هو حالة جبرية، في كونه حالة طوعية إراديَّة. “وأمالَ رأسَه وأسلمَ الروح” تسليماً كاملاً لله، وهنا افتقرَ يسوعُ إلى كلِّ شيء، فأقامَهُ اللهُ من بينِ الأموات قيامة لم يسبق لأحد أن عرفها، ونحن أيضا سنقوم قيامة كمثل هذه، بخطايانا وبضعفنا وأهوائنا وبكل ما عندنا، لأن الله بسبب يسوع قد قرَّر إنعاش رحمه من جديد. الله يعرض علينا رحمته، ونحن نقبلها بصلاة المزامير. أي نحن لا نطلب منه الرحمة، هو يعرضها علينا ونحن نقبلها فحسب. القديس هو من فهم أنَّه مرحومٌ، لأنَّ الله بالرغم من كل ما فعل قد قرر أن يُعيده إلى رحمه. وبالرغم من قساوة الموت يرينا الله الرحمة قبل الموت وبعده، ففي حياتِنا يرحمنا الله، إلا أنَّنا نخون رحمته باستمرار، أما بعد موتنا فهو أيضا يرحمنا، ولكن لا قدرة لنا على خيانة رحمته بعدها.
وفي الفترة القادمة، سنقرأ نصوصاً من المزاميرِ ونفسِّرها، لنحيا بقداسةٍ مبنيَّة على الفهم وليس على العلم.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف.