تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر المزامير – المزمور 50”
“ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امح مآثمي. اغسلني كثيرا من إثمي ومن خطيئتي طهرني. لأني أنا عارف بإثمي وخطيئتي أمامي في كل حين. إليك وحدك خطئت والشر قدامك صنعت. لكي تتبرر في أقوالك. وتتغلب في محاكمتك. ها إنه بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي. ها إنك أحببت الحق وأوضحت لي غوامض حكمتك ومكنوناتها. تنضحني بالزوفى فأطهر، تغسلني فأبيض أكثر من الثلج. تسمعني سرورا وبهجة، فتجذل عظامي الذليلة. اصرف وجهك عن خطاياي، وامح كل مآثمي. قلبا نقيا اخلق في يا الله، وروحا مستقيما جدد في أحشائي. لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه منّي. امنحني بهجة خلاصك، وبروحك المدبر اعضدني. فأعلم الأثمة طرقك. والكفرة إليك يرجعون. نجني من الدماء يا الله إله خلاصي، فيسبح لساني بِبرِّك. افتح يا رب شفتيَّ، فيخبر فمي بتسبحتك. لأنك لو آثرت الذبيحة لكنت قد قربتها. لكنك لا تسر بالمحرقات. الذبيحة لله روح منسحق. القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله. أنعم يا رب في رضاك على صهيون وابنِ أسوار أورشليم. حينئذ تسر بذبيحة البر والقربان والمحـرقات. حينئذ يقربون على مذبحك العجول”.
شرح النصّ الكتابيّ:
يوحي هذا المزمور بكَمِّ المعاناة الكبيرة التي عاشها المرنِّم وعبَّرَ عنها بالكلمات. يُقالُ إنَّ داود قد كتب هذا المزمور بعد أن أرسل أوريا الحثِّي إلى الموت بوَضْعِهِ في الصَّفِّ الأماميِّ من صفوف الجيش، ليتزوَّجَ بامرأته بعدَها ويُنجِبَ منها طفلاً توفيَ بدورهِ بعد فترةٍ، فاعتَبَرَ داود أنَّ هذا الحدث ما هو إلَّا درسٌ من عند الله. إلَّا أنَّ أحداً ما قد أكملَ المزمور بعد داود، والدَّليل في قولِهِ: “ولتبنَ أسوار أورشليم”، فأورشليم في زمن داود لم تكُنْ قد دُمِّرَت بعد.
فمرنِّمُ المزمور إذاً إنسانٌ منسحقٌ ومتعبٌ، إلَّا أنَّه لم يتحدَّثْ إلَّا عن خطيئته فقط، فَهَمُّهُ في هذا المزمور لم يكن استجداءَ المأكلِ أو المشرب، أو الحياةِ الرَّغيدة، بل الحديثُ عن مشكلته التي كان يحياها آنذاكَ وهي علاقتُهُ بالخطيئة ورغبتُهُ بالتَّحرُّر منها، وذلك بنَيْلِ رحمةِ اللهِ وغفرانِهِ والشُّعور بهما. والمزمور ذو نمطٍ شعريٍّ، وسنجد أنَّ بعضَ أفكارِهِ تتشابهُ وتتكرَّرُ، إذ يُعبِّرُ المرنِّم عن بعضِ الأمور مراراً ولكن بأساليبَ مختلفةٍ.
وفكرةُ الرَّحمة هي الأساسُ، إذ نجدُ أنَّ المرنِّم يُكرِّرُ ألفاظاً مُتعلِّقةً بها مثل “ارحمني، اغفر لي”. إلَّا أنَّ موضوع الرحمة لا يتَّخذُ معنى غفرانِ الخطيئة، فعندما نصرخُ لله: “يا ربُّ ارحم”، نحن لا نطلبُ منه عندها أن يمسحَ خطايانا، لأنَّنا بذلك نجعلُ من الله نسَّاياً لخطايانا فقط، بل تعني أنَّنا عائدون إلى الله وراجون له أن يقبَلَنا تائبين، وعندها فمِنَ الطَّبيعيِّ إن قَبِلَنَا أن يمسحَ خطايانا. فالأمرُ إذاً أكبرُ من مجرَّدِ غفرانٍ للخطايا، بل هو عودةٌ إلى حضنِ الرَّبِّ ليقبَلَنا بدورِهِ في رحِمِهِ؛ في أحشائِهِ، في المكان الذي إن خَرجْنا منه لا يُمكنُنا أن نحيا، كالجنين الذي يموت إن حَبِلَت به أمُّهُ خارجَ رحمِها.
والكنيسةُ ترى أنَّ الإنسانَ المسيحيَّ يحيا حياةَ التَّوبةِ بشكلٍ مُستَمِرٍّ، إذ يتناولُ جسدَ الرَّبِّ ودمَهُ ويشتركُ بالذَّبيحةِ الإلهيَّة، والمناولةُ ليست أمراً بين الإنسانِ وربِّهِ، بل هي هبةٌ من اللهِ لكنيستِهِ التي يُحدِّدها عندما تجتمع. فالإكليسيَّةُ أي الكنيسة تعني تلبيةَ النِّداء؛ نداء الرَّبِّ، وعندما نُلبِّي نداءَ الرَّبِّ، يُقرِّر هو بدورِهِ أن يجعلَ من كلٍّ مِنَّا كنيسةً، أي شعباً وأولاداً له، فنأكل معه. أي أنَّ الإفخارستيَّا هي عملُ جماعةٍ، يُعلِنُ من خلالها الرَّبُّ عن محبَّتِهِ، فتقبلُ الجماعةُ محبَّتَهُ، وهذا فعلُ رحمةٍ من الرَّبِّ. لذا علينا أن نتخطَّى فكرةَ “سرِّ الاعتراف” إلى فكرةِ “سرِّ التَّوبة”، إذ إنَّ الاعترافَ يخلو من السِّريَّة، أمَّا التَّوبة فهي العودةُ إلى حضنِ الآب، والسِّرُّ فيها هو قبولُهُ لنا بالرَّغم من كلِّ ما ارتكبناهُ من خطايا؛ هو حضورُ اللهِ في العمل، فالتَّوبة إذاً أشملُ من الاعتراف.
“ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امح مآثمي”.
وهنا يقصدُ المرنِّمُ أنَّ خطاياه كثيرةٌ جدَّاً، إلَّا أنَّ رحمةَ الرَّبِّ أكبرُ من خطيئتِهِ دائماً، وهنا نجدُ الثِّقةَ والإيمانَ والرَّجاء؛ الثِّقة برحمةِ الرَّبِّ، لأنَّهُ مؤمنٌ أنَّهُ يرحمُ بالحقيقة، والرَّجاء بأنَّ الرَّحمةَ ستتحقَّق. وقوله: “بحسبِ كثرةِ رأفتِكَ” يعني كما أنتَ مُعتادٌ أن ترحمَ، أي بحسبِ طبيعتِكَ الرَّحومة.
“اغسلني كثيراً من إثمي”.
والتَّشديدُ على فكرةِ الغسلِ ناجمٌ عن اعترافِ المرنِّم بخطاياه الكثيرة، وبخطيئتِهِ الكبيرة، لذا يريدُ أن يُغسَلَ أكثرَ وأكثرَ من العادة، وهنا ندركُ عُمقَ معاناتِه.
“ومن خطيئتي طهرني”.
وهذه العبارةُ تحملُ معنى سابقتِها ولكن بكلماتٍ مختلفةٍ.
“لأنِّي أنا عارفٌ بإثمي”.
وأهمُّ درجاتِ التَّوبة هي أن يُدرِكَ الإنسانُ حقيقةَ وضعِهِ، عارفاً خطيئته. ومعرفةُ الخطيئة لا تعني أن يعرفَ الإنسانُ أنَّهُ قد كذبَ أو سرقَ، بل أن يُدركَ خطيئتَهُ وتحليلَها والسَّببَ الذي أدَّى به إلى ارتكابها، وعندها تكونُ التَّوبةُ حقيقيَّةً. فالخطايا -كما الفضائلُ- مسبحةٌ، قد يعتقدُ الواحدُ منَّا أنَّه ارتكبَ خطيئةً معيَّنةً، إلَّا أنَّه في الحقيقةِ يكونُ قدِ اقترفَ أكثرَ من واحدةٍ بكثيرٍ دونَ أن يُدركَ، لذا عليهِ أن يُحلِّلَها ليُدركَ كلَّ خطاياه والسَّبب الذي أدَّى بهِ إلى الوصول إلى تلكَ الحال.
“وخطيئتي أمامي في كلّ حين”.
أي أنَّه لشِدَّةِ ما عرَفَ خطيئتَهُ وأدركَها، أصبحَ طيفُها يلازمُهُ كلَّ حينٍ. أصبحَت مرآةً له، تُماثله كتوأمِه. فالمرنِّم إذاً يشعرُ بثقلِ خطيَّتِهِ التي لم تعدْ تفارقه، ويريدُ التَّحرُّرَ منها، إلَّا أنَّ أحداً لا يُحرِّرُه إلَّا الله، بالرَّحمة.
إليكَ وحدَك خطئْتُ”.
مع أنَّهُ ارتكبَ الخطيئةَ بحقِّ الآخر، إلا أنَّ الكاتبَ يعتبرُها ضدَّ الله، معترفاً أنَّ أيَّة أذيَّةٍ يُسبِّبها لأيٍّ من إخوته في العالم فهي خطيَّةٌ بحقِّ الله، لأنَّهم عائلةُ الله وبيتُه وشعبُه، وهو أبوهم.
“والشَّرَّ قدَّامك صنعْتُ”.
وهنا يشيرُ المرنِّم إلى حالةِ اللَّامبالاة بوجودِ الله وإنكارِ ربوبيَّة الله عليه، والتي كان يحياها عندما ارتكبَ الخطيئةَ قدَّامَ الرَّبِّ وأمام عينيه، فالخطيئةُ إذاً هي إنكارٌ لألوهيَّة الآبِ علينا، إذ نخطئُ قدَّامَهُ متجاهلين حضورَه. والكاتب يعترفُ بهذا لذا يطلبُ الرَّحمةَ من الله.
“لكي تتبرَّرَ في أقوالِكَ. وتتغلب في محاكمتك”.
يناجي المرنِّمُ الرَّبَّ كاشفاً له جُرمَهُ، وطالباً إليه أن يحكمَ عليه وكلُّهُ ثقةٌ بنزاهةِ قضائِهِ وعدلِه. وهذا الفعلُ صعبٌ جدَّاً، لأنَّهُ يدركُ أنَّهُ إن عاملَهُ الله بحسبِ عدلِهِ سيذهبُ إلى الجحيم، إلا أنَّهُ قدِ استهلَّ مزمورَهُ بقولهِ: “ارحمني”، والرَّحمةُ تختلفُ عن العدل. وهنا يظهرُ معنىً آخر في المزمور، وهو أنَّهُ إن غفرَ الله لداود ورحمَهُ، فسيتبرَّأُ أمام النَّاس الذين أذاهم لأنَّ اللهَ عادلٌ، فالمغفرةُ ليست بين المرنِّم والرَّبِّ فقط، بل يجبُ أن يشعرَ المتأذِّي أيضاً بهذه الرَّحمة عندما يعودُ إليه داود بقصدِ تصحيحِ الأذيَّة.
“ها إنّه بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي”.
وعلى عكسِ ما قد يظنُّ القارئ، لا توجدُ إشارةٌ في هذا البيتِ الشِّعريِّ إلى الخطيئة الأصليَّة، فنحن لا نرثُها عن أجدادِنا بل نرثُ عواقبَها، إلَّا أنَّ المرنِّم لشِدَّة معرفتِه بخطيئتِه ونَدَمِه بات يشعرُ أنَّ جِبلَتَهُ كلَّها معجونةٌ بالخطيَّة وأنَّه خاطي مُذ وُلِدَ.
ها إنَّك أحببت الحق وأوضحْتَ لي غوامض حكمتِكَ ومكنوناتها.
“تنضحُني بالزوفى فأطهر”.
أي أنَّ الرَّبَّ مُحبٌّ للحقِّ في أعماقِ أعماقِه وبطبيعته، بل وعلَّمَهُ للمرنِّم أيضاً كما علَّمَهُ الحكمةَ، ومع ذلك حادَ عن الطَّريق الصَّحيح، لذا يَطلبُ من الرَّبِّ أن يُطهِّرَهُ ويُداوي جُرحَ الخطيئةِ الذي في داخِلِه، والزُّوفى كان يُستخدَمُ قديماً لتعقيمِ ومعالجةِ الجراح. وبالرَّغم من أنَّ خطيئةَ الكاتب قد جرحَتْهُ إلَّا أنَّهُ لا يلومُ غيرَهُ، أمَّا نحنُ فنلومُ الآخرين، حتى أنَّنا إن لم نجدْ من نلومه، رمَينا باللَّومِ على الشَّيطان لنجدَ المبرِّر، وهنا يكمنُ الفرقُ بيننا وبينَ المرنِّم. ولكنَّ اللهَ لا يناقشُنا في هذا، فالمهمُّ أن تكونَ عودتُنا إليه صادقةً. ففي مَثَلِ عودةِ الابن الضَّالِّ في الإنجيل، كانَ الأبُ عندَ رجوعِ الابنِ إلى البيت – بعدَ أن بذَّرَ كلَّ أموالِهِ ولم يعدْ يجدْ علفَ الخنازير ليأكلَ- منتظراً إيَّاهُ عند الباب، وما إن بدأَ الولدُ بالكلام قائلاً: “لقد أخطأْتُ أمامَ السَّماءِ وأمامَكَ” حتَّى حضَنَهُ أبوه مقاطعاً إيَّاه وقبَّل عُنقَهُ، وهيَ قبلةُ الأبِ للابن وليسَ العبد، معاملاً إيَّاه بحسب الرَّحمة لا بحسب العدل، لذا فإنَّ اسمَ المثل “الأبُ الرَّحيم” وليس “الابن الشَّاطر”.
وهكذا اللهُ، ما إن يُخطئَ أحدُنا ويَحيدَ عن طريقِهِ، حتى يخرجَ لانتظارِ عودتِه عندَ الباب. وعند العودة لا يُناقشُنا الرب، بل يطلبُ مِنَّا أن ننسى ما اقترفناه، لأنَّه إن نسيَ هو خطيَّتَنا فلا يجبُ علينا نحن أن نتذكَّرَها، لأنَّ تذكُّرَ الخطيئة هو أحدُ أبوابِ الدُّخول فيها من جديد. والآباءُ الرُّوحيوُّن والقدِّيسون يُشدِّدون على أهميَّة نسيان الخطيئة. والرَّبُّ قد قال في الآية 31 من الإصحاح 31 من سفر إرميا النَّبي: “سوفَ أغفرُ خطيئتَهم ولن أذكرَها من بعد”. وتذكُّرُ الإنسانُ لخطيئتِهِ يعني أمراً من اثنين، إمَّا أنَّهُ يحنُّ إليها، أو أنَّهُ لا يثقُ برحمةِ الرَّبِّ، وفي الحالتين هو مخطئٌ. فالتَّقوى الحقيقيَّةُ تفرضُ معرفةَ الخطيَّة جيِّداً، ومعرفةَ رحمة الله جيِّداً أيضاً، ونتيجتها نسيانُ الخطيئة نهائيَّاً. وإنْ عادَ الإنسانُ وارتكبَ الخطيئةَ نفسها، فإنَّه سيبدأُ من الصِّفر، ولا تُعتَبَرُ مرَّةً ثانيةً بل أولى، ويسوعُ قد قالَ لمن شفاهم: “اذهبْ ولا تعدْ تخطئْ بعد لئلَّا يُصيبَكَ أشرَّ”، والأشرُّ لا يعني العقاب، بل يعني أنَّ وضعَ الإنسانِ يُصبحُ أسوأَ بكثير، فكلامُ يسوع ليس بتهديدٍ أو تحذيرٍ أو عقابٍ، هو فقط يُعرِّفُنا الحكمةَ لئلَّا نُخطئَ ثانيةً.
وعندما طلبَ اللهُ من آدمَ ألَّا يأكلَ من ثمرِ شجرةِ معرفةِ الخير والشَّرِّ وإلا فـ “موتاً تموت”، لم يكن يهدِّدُه بالموت، بل كان يقصدُ أن يُعرِّفَه بحكمةٍ لم يعرفْها من قبل، وأن يُعلِمَه أنَّ من يأكل من هذه الشَّجرة يَهلكُ، أي أن يُحذِّرَه. والإنسانُ بفكرِهِ الشَّيطانيِّ يسألُ لمَ خلقَ اللهُ الشَّجرة إن كان يُدرِكُ أنَّنا سنأكل؟ والجواب هو أنَّه قد خلقَها، إلَّا أنَّهُ قد أعلَمَنا ما سيحدُثُ إن تذوَّقناها؛ أنَّنا سنهلكُ، فماذا نريدُ أكثرَ من ذلكَ؟
أمَّا هنا في المزمور، فالمرنِّم هو وحده من يتحمَّلُ المسؤوليَّة، وهو وحده من ارتكبَ الخطيئةَ ولكنَّه يريدُ من الله أمراً واحداً وهو أن يرحمَه.
“تغسلني فأبيضُّ أكثر من الثلج”.
وهنا ثقةٌ عظيمةٌ برحمةِ الله، إذ يُدرك أنَّهُ إن غفرَ الرَّبُّ له يُصبِحُ أبيضَ من الثَّلجِ وأنقى، أي ينسى خطيَّتَه أيضاً ويبدأ من جديد. فكلُّ توبةٍ هي ولادةٌ جديدةٌ، ونحن لا نعرفُ الولادةَ الجديدةَ إلَّا من خلالِ المعموديَّة، ولكن هناك معموديَّةٌ واحدةٌ، وإذ لا يمكنُ لنا أن نعتمدَ كلَّما أخطأنا، جاءَ سرُّ التَّوبة والاعتراف الذي هو إعادةُ المعموديَّة بدون معموديَّة، لأنَّنا عندما نعترفُ بربوبيَّة الرَّبِّ، ونُنكِرُ إلهَ الخطيئة الذي تبعناهُ، تسيلُ دموعُنا ماء عَمادٍ من جديد.
“تُسمعني سرورا وبهجة، فتجذل عظامي الذليلة”.
يستجدي المرنِّم الرَّبَّ ليُسمِعَه الخبر السَّارَّ: “مغفورةٌ لك َخطاياكَ”، فتفرحُ عظامَ جسدِهِ التي حطَّمها بارتكابه للخطيئة.
“اصرف وجهكَ عن خطاياي، وامحُ كل مآثمي”.
بعد أن تدرَّجَ الكاتبُ في المعاناةِ، حتَّى وصلَ إلى طلبِ الخبرِ السَّارِّ من الرَّبِّ، يعتقدُ القارئ أنَّه قدِ انتهى من الحديثِ عن خطيئته، إلا أنَّهُ يعودُ في هذا البيت للحديثِ عنها من جديد، وهذا لأنَّهُ يُريد أن يُخلَق من جديدٍ بالفعل، لذا يصرخُ تجاه الرَّبِّ: “قلباً نقيَّاً اخلق في يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في أحشائي”، راجيا إيَّاهُ أن يُجدِّدَ قلبَه وروحَه فيغدو إنساناً جديداً منسجماً مع فرحِ الرَّبِّ وسرورِهِ.
“لا تطرحني من قدام وجهك”
يطلبُ المرنِّمُ من الرَّبِّ ألَّا يطردَهُ خارجاً عندما يَمثُلُ أمامَه للمحاكمة قبل أن يُصدِرَ بحقِّه حُكماً، وهو لا يخشى حُكمَ الرَّبِّ لأنَّهُ قد طلبَ الرَّحمةَ منهُ منذُ البداية.
وروحك القدوس لا تنزعه منّي.
وهنا إصرارٌ على وجودِ روحِ اللهِ في داخلِ الكاتب، كالجمرِ تحتَ الرَّمادِ، وهو يرجو الله ألا ينزعَها منه لتلتهبَ من جديدٍ.
“امنحني بهجة خلاصك وبروحك المدبر اعضدني”.
يرجو الكاتبُ أن يملأهُ اللهُ بروحِ المسؤولية من جديد، فيكونُ مسؤولاً عن أعمالِهِ ولا يعود يستهترُ أو يستهزئ.
“فأعلِّم الأثمة طرقك، والكفرة إليك يرجعون”.
وهنا يتَّضحُ تحدِّي الإنسان المكسور لله، فإن غفرَ له ورحمَه أضحى هو من يُعلِّمُ الخطأةَ والكفرةَ أن يتوبوا بدورِهم ويرجعوا إلى الله.
“نجّني من الدماء يا الله إله خلاصي فيسبح لساني بِبرِّك”.
والدِّماء هنا إشارةٌ إلى القتل – قتل أوريا أو قتل النَّفس بالخطيئة – وبرحمةِ الله لن يقوى لسانه على ذكر خطيئته بعدها، بل سيُسَبِّحُ ويمجِّدُ الرَّبَّ و يبشِّرُ به متحوِّلاً إلى رسول.
“افتح يا ربّ شفتيّ فيترنّم فمي بتسبحتك”.
أي ليسَ المرنِّم من ينطقُ بعدَها، بل الرَّبُّ ينطقُ على شفتَيه ما يريدُ، يتكلَّمُ بما هو من عندِ الله.
“لأنَّك لو آثرت الذبيحة لكنت قد قرّبتها. لكنّك لا تسر ّبالمحرقات”.
الذبيحة لله روحٌ منسحق. القلب الخاشع والمتواضع لا يرذله الله.
وهنا إشارةٌ إلى ذبائحِ التَّكفيرِ التي تُقدَّمُ لمحوِ الذُّنوب، فالمرنِّم يُدرِكُ أنَّ اللهَ لا يُسرُّ بهذهِ الذَّبائح لذا لم يُقدِّم له إلَّا الروح المنسحق، وهو العودةُ الحقيقيَّة إلى حضنِ الآب.
“أنعم يا رب في رضاك على صهيون وابنِ أسوار أورشليم”.
وهذا البيتُ وتاليهِ أُضيفا إلى المزمورِ الأصليِّ، إذ يرجو الكاتبُ إعادةَ بناء أورشليم المحطَّمة، متحدِّثاً عن الشَّعب المكسور.
“حينئذ تسر بذبيحة البر والقربان والمحرقات. حينئذ يقرّبون على مذبحك العجول”.
أي البرُّ هو الذَّبيحة، كما قال يسوع ليوحنَّا المعمدان: “دَعْنا الآنَ نُتمِّمُ كلَّ برٍّ”، وإذا قدَّمْنا قلبَنا المنكسرَ لله، يمكننا بعدها تقديمُ ما نريدُ من محرقاتٍ، ولكن لا يمكننا أن نستعيضَ عن القلبِ المنسحقِ بالذبائح والبخور. والقلبُ المنسحقُ هو وقفةُ التَّائبِ الحقيقيِّ المغفورةُ له خطاياه قبلَ أن يُصلِّي المزمور طالباً الرحمة، لأنَّهُ واثقٌ من أنَّ الله سيرحمهُ قبلَ أن يطلبَ الرَّحمة، ولكنَّهُ طلبَها لذا تمكَّنَ داود من كتابةِ هكذا مزمور.
ملاحظة: دُوِّنَ الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.