تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“إنجيل القدّيس مرقس الرّسول – الإصحاح الإوّل” 

النّص الإنجيليّ:

“بَدءُ إنجيل يسوع المسيحِ ابْنِ الله، كَما هو مَكتوبٌ في الأنبياء: “ها أنا أُرسِل أمام وَجهِكَ ملاكي، الّذي يُهيِّئُ طريقَكَ قُدّامَكَ. صَوتُ صارخٍ في البَرّيَّة: أعِدّوا طريق الرّبّ، اصنَعوا سُبُلهُ مُستقيمةً”. كان يُوحنّا يُعمِّدُ في البَرّيَّة ويَكرِزُ بِمَعموديَّة التَّوبة لِمَغفِرة الخطايا. وخَرَج إلَيه جميع كُورةِ اليَهوديَّة وأَهلُ أورشَليم واعتَمَدوا جميعهم مِنهُ في نَهر الأُردنِّ، مُعتَرفِين بِخَطاياهم. وكان يوحنّا يَلبَس وَبَرَ الإبل، ومِنطقةً مِن جِلدٍ على حَقوَيهِ، ويأكل جرادًا وعسلًا بَرِّيًّا. وكان يَكرِز قائلًا: “يأتي بَعدي مَن هو أقوى مِنِّي، الّذي لَستُ أهلًا أن أنحَني وأَحُلَّ سُيُورَ حِذائه. أنا عَمَّدتكُم بالمَاء، وأَمّا هو فَسَيُعمِّدكُم بِالرّوح القُدُس”. وَفي تِلك الأيّامِ جاء يسوع مِن ناصِرةِ الجَليل واعتَمَد مِن يوحَنّا في الأُردنِّ. ولِلوَقتِ وهو صاعدٌ مِن الماء رأى السَّماواتِ قد انشَقَّت، والرُّوحَ مِثل حمامةٍ نازلًا علَيه. وكان صَوتٌ مِن السَّماوات: “أنتَ ابني الحَبيب الّذي بهِ سُرِرتُ”.  ولِلوَقتِ أَخرَجهُ الرّوحُ إلى البَرّيَّة، وكان هُناك في البَرّيَّة أربَعين يَومًا يُجرَّب مِن الشَّيطان. وكان مع الوحوش. وصارَتِ الملائكةُ تَخدمُهُ. وبَعدَما أُسلِمَ يُوحَنّا جاء يسوع إلى الجَليلِ يَكرِزُ بِبِشارة مَلَكوت الله ويَقول: “قد كَمَلَ الزّمانُ واقتَرَبَ مَلَكوتُ الله، فَتُوبوا وآمِنوا بِالإنجيل”. وفِيما هو يَمشي عِندَ بَحرِ الجَليلِ أَبصَرَ سِمعان وأندَراوسَ أخاهُ يُلقِيان شَبكةً في البَحرِ، فَإنّهما كانا صَيّادَين. فَقال لَهُما يسوع: “هَلُمَّ وَرائي فَأجعَلُكما تَصيران صَيّادَي النّاس”. فَلِلوَقتِ تَرَكا شِباكَهما وتَبِعاه. ثُمّ اجتازَ مِن هُناك قَليلًا فَرأى يَعقوبَ بنَ زَبدى ويُوحَنّا أخاهُ، وَهُما في السَّفينَة يُصلِحان الشِّباكَ. فَدَعاهُما لِلوَقتِ. فَتَرَكا أباهُما زَبدى في السَّفينَة مع الأَجرى وذَهَبا وَراءه. ثُمّ دَخَلوا كَفَرناحوم، وَلِلوَقتِ دَخَلَ المَجمَع في السَّبتِ وصارَ يُعلِّم. فَبُهِتوا مِن تَعليمِه لأنّهُ كان يُعلِّمهُم كَمَن له سُلطانٌ ولَيسَ كَالكَتَبة. وكان في مَجمَعِهم رَجُلٌ بهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرخ قائلًا: “آهِ! ما لنا ولكَ يا يَسوع النَّاصِريّ؟ أتَيْتَ لِتُهلِكَنا! أنا أَعرِفُكَ مَن أنتَ: قُدُّوسُ الله!” فَانْتَهَرهُ يَسوعُ قائلًا: “اخْرَس! وَاخْرُجْ مِنهُ! فَصَرعَهُ الرّوحُ النَّجِسُ وصاحَ بِصَوتٍ عظيمٍ وخَرَج مِنهُ. فَتَحيَّروا كُلُّهم، حتَّى سأل بَعضُهم بَعضًا قائلِين: “ما هذا؟ ما هو هذا التَّعلِيم الجَديدُ؟ لأنّهُ بِسُلطانٍ يأمُرُ حتّى الأرواحَ النَّجِسةَ فَتُطيعُه!”. فَخَرجَ خَبَرُهُ لِلوَقتِ في كُلّ الكُورَةِ المُحيطةِ بِالجَليلِ. ولَمَّا خَرَجوا مِنَ المَجمَع جاءوا لِلوَقتِ إلى بَيتِ سِمعانَ وأندَراوس مع يَعقوبَ ويُوحَنّا، وكانَتْ حَماةُ سِمعانَ مُضطَجِعةً مَحمومَةً، فَلِلوَقتِ أَخبَروه عنها. فَتَقدَّمَ وأقامَها ماسِكًا بِيَدها، فَتَرَكتْها الحُمّى حالًا وصارَتْ تَخدمُهم.  وَلَمّا صار المَساء، إذ غَرَبَتِ الشّمسُ، قَدَّموا إلَيه جميع السُّقَماء والمَجانينَ. وكانَتِ المَدينَةُ كُلُّها مُجتَمِعةً على الباب. فَشَفى كثيرينَ كانوا مَرضى بِأمراضٍ مُختَلِفةٍ، وأَخرَج شَياطين كثيرةً، ولَم يَدَعِ الشَّياطين يَتكلَّمون لأنّهم عَرَفوه. وَفي الصُّبحِ باكرًا جدًّا قام وخَرَجَ ومَضى إلى مَوضِعٍ خلاءٍ، وكانَ يُصلِّي هُناكَ، فَتَبِعهُ سِمعانُ والّذِينَ معهُ. ولَمّا وَجَدوهُ قالوا له: “إنَّ الجميعَ يَطلُبونَكَ”. فَقالَ لَهُم: “لِنَذهَب إلى القُرى المُجاوِرة لأَكرِزَ هُناك أيضًا، لأنّي لِهذا خَرَجتُ”. فَكانَ يَكرِزُ في مَجامِعِهم في كُلّ الجَليل ويُخرِجُ الشَّياطين. فأتى إلَيه أَبرَصُ يَطلُب إلَيه جاثيًا وقائلًا له: “إن أرَدتَ تَقدِر أن تُطهِّرَني”.  فَتَحنَّنَ يَسوعُ ومَدَّ يَدَه ولَمَسهُ وقال له: “أُريدُ، فَاطهُر!”. فَلِلوَقتِ وهو يَتَكلَّم ذَهَب عَنهُ البَرَص وطَهُر. فَانْتَهرَهُ وأَرسَلهُ لِلوَقتِ، وقال له: “انْظُر، لا تَقُلْ لأحدٍ شَيئًا، بل اذهَب أَرِ نَفسَكَ لِلكاهن وقَدِّم عن تَطهِيركَ ما أَمَرَ بهِ موسى، شَهادةً لَهُم”. وأَمّا هو فَخَرَجَ وابتَدأ يُنادي كثيرًا ويُذيعُ الخَبَر، حتّى لَم يَعُد يَقدِر أن يَدخُلَ مَدينَةً ظاهِرًا، بل كان خارجًا في مَواضِعَ خاليَةٍ، وكانوا يأتونَ إلَيهِ مِن كُلّ ناحيَةٍ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

يبدأ إنجيل القدِّيس مرقس بهذه العِبارات: “بَدءُ إنجيلِ يَسوعَ المَسيحِ ابْنِ الله”. عادةً، كَلِمةُ “إنجيل” تعني البُشرى السّارة، الخَبَر السّار، الخَبَر الـمُفرِح، ولكن هنا كَلِمة “إنجيل” تعني عَمَل ُيسوع، قصّة يسوع، كتابُ يسوع المسيح. إخوتي، إنّ كلَّ إنجيليّ من الإنجيليِّين الأربعة نَقَل إلينا عَمَل الربّ على الأرض مِن منظاره الخاصّ. لقد استخدم الإنجيليّ مرقس هذه الكلمات الثلاثة: “يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ”، في بداية إنجيله، لتوضيح معنى كلّ كَلِمةٍ من هذه الكلمات الثلاث، الّتي جميعها تُشير إلى الربّ يسوع:

“يسوع” تعني “الله يُخلِّص” أو “يهوه يُخلِّص”؛

“المسيح” تعني “الممسوح”، أي المختار، المعيَّن مِن الله للعمل الخلاصيّ؛

“ابن الله” تعني أنّ يسوع المسيح الإنسان الّذي عرفناه هو ابنُ الله حقًّا.

إذًا، من خلال هذه الكلمات الثلاث، أراد الإنجيليّ مرقس أن يُخبرنا بإيجاز عن مضمون إنجيله. إنّ أوّل إنجيل كُتِب تاريخيًّا هو إنجيل القدِّيس مرقس. إنّ أكثر نُقّاد الكتاب المقدَّس يتوافقون على أنّ الإنجيليّ مرقس قد كَتَب إنجيله إلى بيئةٍ غير يهوديّة، إلى بيئةٍ رومانيّة يونانيّة، بدَليل إنّه لجأ إلى تفسير عدَّة كلماتٍ لا تحتاج إلى شرحٍ عند المؤمِن اليهوديّ، على سبيل المِثال: كَلِمة “طليثا” هي كَلِمةٌ يعرف اليهوديّ معناها وهي تعني ظَبية، ولكنّ الإنجيليّ مرقس قد ذَكَرها مُرفَقَةً بمعناها، إذ قال” “طليثا أي ظَبية”. وإليكم مِثالاً آخَر: لقد ذَكر الإنجيليّ مرقس في إنجيله تفصيلاً توضيحيًّا عن مكان وجود بستان الزَّيتون إذ قال “بستان الزَّيتون المقابِل للهَيكل”، في حين أنّ اليهوديّ يعرِف تمامًا مكان وجود بستان الزّيتون. لقد سعى الإنجيليّ مرقس إلى إظهار قوّة الربّ وسُلطانه لأنّ ذلك يستهوي البيئة الأجنبيّة غير اليهوديّة. لذا، قال لنا، في بداية هذا الإصحاح، حين تكلَّم عن يوحنّا المعمدان: “صوتُ صارخٍ في البريّة” فَهذه العبارة تُشير إلى القوّة. كما نلاحظ أنّ الإنجيليّ مرقس قد أتبَع هذا الإصحاح، بالحديث عن الشِّفاءات الّتي قام بها الربّ يسوع، وذَلِك لإعلان قوّة الربّ وسُلطانه. ونلاحظ أيضًا أنّ الإنجيليّ مرقس قد لجأ إلى التخفيف من كتابة الخطابات الطويلة الّتي نجدها في إنجيل القدِّيس متّى وأيضًا في إنجيل القدّيس يوحنّا. إنّ إنجيل القدِّيس مرقس مؤلَّفٌ مِن ستّة عشر إصحاحًا: مِن الإصحاح الأوَّل حتى الإصحاح العاشر، يُكلِّمنا الإنجيليّ مرقس على أعمال يسوع ومعجزاته وسُلطانِه؛ أمّا مِن الإصحاح العاشر إلى الإصحاح السَّادس عشر ما يُمثِّل ثلث إنجيله، فَيُكلِّمنا على آلام الربّ يسوع وصَلبِه وموته وقيامتِه. إذًا، لقد أراد الإنجيليّ مرقس في إنجيله التَّركيز على إظهار سُلطان الربّ يسوع وقوّته، كما أراد الإشارة إلى أنّ هذا الشّخص ذو السُّلطان، أي الربّ يسوع المسيح، هو نفسه الّذي سيُعذَّب وسيُصلَب وسَيموت على الصّليب مِن أجلِنا وسيقوم بعد ثلاثة أيّام. لقد أطال الإنجيليّ مرقس الحديث عن آلام الربّ لأنّه أراد أن يكشف لنا حقيقة السِّر الـمَسِياني، أي “سرّ المسيح”. بالنِّسبة إلى اليهود، المسيح هو “مختار الله” الّذي سيقود الشّعب إلى الخلاص، أي أنّه يحمل صورة القائد الجماهيريّ. وبالتّالي، كي لا تَفهَم البيئة اليونانيّة الَّتي يُوَجِّه الإنجيليّ مرقس إليها إنجيله، صورة المسيح بطريقةٍ خاطئة، أسهَب في الحديث عن آلام الربّ، كي يتمكَّن السّامعون له من فَهم معنى كَلِمة “المسيح” بشكلٍ صحيح، فالمسيح بالنِّسبة إليه هو المخلِّص، وبالتّالي هو لا يُشبِه الصّورة المطبوعة في أذهان اليهود.

إنّ إنجيل “يسوع” الّذي يُخلِّص و”المسيح” المختار، و”ابن الله” الّذي عنده اللاهوت، عند الإنجيليّ مرقس، يبدأ بالعبارة التالية: “كما هو مكتوب في الأنبياء”، لأنّ الإنجيليّ مرقس أراد أن يقول لنا إنّ “يسوع المسيح ابن الله” الَّذي يُحدِّثنا عنه، هو الّذي تَكَلّم عليه الأنبياء وهو الَّذي حقِّق كلّ نبوءات العهد القديم. لقد استخدم الإنجيليّ مرقس عبارة “الأنبياء” مِن دون أن يُحدِّد اسم نَبيّ معيَّن، لأنّ هذه الآية هي آيةٌ دَمج فيها الإنجيليّ مرقس نبوءتَين من العهد القديم: النبوءة الأولى مأخوذة من سِفر ملاخي، الإصحاح الثالث: “ها أنا أُرسِلُ أمام وَجهِكَ مَلاكي، الَّذي يُهيِّئ طَريقَكَ قُدّامَك”؛ وأمّا النبوءة الثانية، فمأخوذة من سِفر إشعيا، الإصحاح 40. إنّ كلمة “ملاك” في اللّغة العِبريّة تعني “رسول”، وبالتّالي يُصبح القِسم الأوّل من هذه الآية، كما يلي: “ها أنا أُرسِل أمام وَجهِك رسولي”، والمقصود هنا، في هذه العبارة، هو يوحنا المعمدان الّذي سَبَق مجيء المسيح، أي الّذي سَبَق عَمَل المسيح، فهو قد مهَّد له الطريق، وقد أخبرنا الإنجيليّ مرقس عن عمل يوحنّا المعمدان حين قال فيه: “صَوتُ صارخٍ في البَرّيَّة: أَعِدّوا طَريقَ الرّبِّ، اصنَعوا سُبُلهُ مُستَقيمةً”. “الّذي يُهيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَك”: إنّ هذه الصُّورة مستوحاةٌ مِن خروج الـمَلِك مِن مملكته أو مِن عرشِه إلى مكانٍ آخَر، إذ في العهد القديم، كانت تَخرج فِرقةٌ أمام الـمَلِك لتُهَيِّئ الطَّريق أمامه، فيَكون سلوكُه صحيحًا وسليمًا. لقد استعمل الإنجيليّ مرقس هذه الصّورة مِن سِفر ملاخي للإشارة إلى أنّ يوحنّا المعمدان قد مهَّد الطريق لخروج الربّ إلى النّاس. “صَوتُ صارخٍ في البَرّيَّة”: إنّ الّذي يَصرخ في البَريّة أو الصَّحراء هو الأسد. إنّ لكلّ إنجيليٍّ من الإنجيليِّين الأربعة رَمزٌ يُعبِّر عن أسلوبه ومضمون إنجيله: إنّ الأسد هو رَمزٌ للإنجيليّ مرقس، و”ابن الإنسان” هو رَمزٌ للإنجيليّ متّى، والحَمَل هو رمزُ الإنجيليّ لوقا، والنّسِر هو رَمزُ الإنجيليّ يوحنّا. لقد وصف الإنجيليّ مرقس يوحنّا المعمدان بالقول: “صوتُ صارخٍ في البريّة”، ولم يَقُل لنا “الصَّوت الصَّارخ في البريّة”. إنّ يوحنّا المعمدان هو صوتُ صارخٍ وليس هو الصّارخ. إنّ الصّارخ هو الله والصّوت هو الذي يَنقُل للآخَرين رغبة المتكلِّم. الصّوت يَحمِل الكلمة ويوصِلُها إلى الآخَرين. إذًا، يوحنّا المعمدان ليس هو الكَلِمة ولا هو صاحبُ الكَلِمة. مِن خلال كلام الإنجيليّ مرقس، نفهَم أنّ يوحنّا المعمدان كان مُدرِكًا لحقيقته وحقيقة رسالته أمام عَمَل المسيح الكبير. لذا، سنَقرأ بعد قليلٍ في هذا الإصحاح قَول يوحنّا المعمدان: “أنا لستُ أهلاً لأنّ أحُلَّ سُيُورَ حِذائه”. إنّ يوحنّا المعمدان هو آخِر أنبياء العهد القديم. “أَعِدّوا طَريقَ الرّبّ، اصنَعوا سُبُلَهُ مُستَقيمَةً”: كيف يمكن للمؤمِنِين أن يُعِدّوا طريق الربّ ويجعلوا سُبُله مستقيمة؟! لقد أعلن الإنجيليّ مرقس عن كيفيّة إعداد المؤمِنِين لطريق الربّ في حياتهم عندما أخبرنا عن عمل يوحنّا المعمدان، وبالتّالي يستطيع المؤمِن أن يُعِدَّ طريق الربّ من خلال المعموديّة الّتي كان يُنادي بها يوحنّا المعمدان، فمعموديّة يوحنّا هي معموديّة التّوبة لمغفرة الخطايا. إذًا، على المؤمِن أن يُعِدَّ طريق الربّ من خلال إعلان توبته لمغفرة خطاياه، فيتمكَّن الربّ من سلوك الطريق الّذي أعدَّها له المؤمِن.

“كان يوحَنّا يُعمِّد في البَرّيَّة ويَكرِز بِمَعمودِيَّة التَّوبَة لِمَغفِرَةِ الخَطايا”. إنّ اسم “يوحنّا” يعني “الله – الحنان”، “الله – الحنون”، ممّا يعني أنّ عمل يوحنّا المعمدان يُظهِر حنان الله. في القديم، كانت لدى بعض الجماعات اليهوديّة عاداتٌ تقوم على الاغتسال، فالاغتسال يرمز إلى الطّهارة والنّظافة. ولا زالت بعض تِلك العادات موجودة في الدِّين الإسلاميّ على سبيل المِثال، إذ إنّ هناك ما يُسمّى بالوُضوء الَّذي يقوم على اغتسال المؤمِن قَبْل الصّلاة. في اليهوديّة، كانت عادات الاغتسال موجودةً، ولكنّها لم تكُن مِن أساس النّاموس اليهوديّ، أي أنّها لم تكن فريضةً يهوديّة، بالمعنى الَّذي كان يقوم به يوحنا المعمدان. إنّ كَلِمة “كرازة” أيkirisso  باللُّغة اليونانيّة تعني أن تُبشِّر. كان يوحنّا المعمدان يَكرِز بمعموديّة التَّوبة لمغفرة الخطايا. إنّ الهدف من معموديّة يوحنّا هو مغفرة خطايا المؤمن الّذي يُعلِن توبته.كانت جماعاتٌ كبيرة وجماهيرُ كثيرةٌ تَتبَع يوحنّا المعمدان وتَقبَل المعموديّة الّتي كان يُبشِّر بها. إنّ الإنجيليّ مرقس لم يَكتُب عن هذا الأمر عن عَبثٍ، لأنَّه كانت في الكنيسة الأُولى مشكلةٌ كبيرةٌ، تقوم على اعتقاد عددٍ كبيرٍ من اليهود بأنّ يوحنّا المعمدان هو “الـمَسِيّا المنتظر”. لذلك، كان يوحنّا يُشدِّد على التصريح جِهارًا أنّه ليس هو الـمَسيّا المنتظر، قائلًا عن نفسه إنّه السّابق لمجيء المسيح وإنّه الـمُعِدّ الطَّريق لِقُدوم الربّ. في هذا الإطار، أودُّ القَول إنّ الإنجيليِّين الأربعة قد أشاروا إلى هذا الصِّراع الموجود في الكنيسة الأولى.  

“وخَرجَ إلَيه جميعُ كُورَةِ اليَهوديَّةِ وأَهلُ أورشَليمَ واعتَمَدوا جَميعُهم مِنه في نَهر الأُردُنِّ، مُعتَرفِينَ بِخَطاياهم”. إنّ أهل اليهوديّة وأهل أورشليم الّذين أَقبَلوا إلى معموديّة يوحنّا هُم أنفسَهم الّذين سيُطالبون بِصَلب المسيح، أي أنّهم قَبِلوا يوحنّا الّذي أعدَّ طريق الربّ ولَم يَقبَلوا الربّ عندما جاء إليهم.

“وكَان يوحَنّا يَلبَسُ وَبَرَ الإبِل، ومِنطَقَةً مِن جِلدٍ على حَقوَيهِ، ويأكُل جَرادًا وعَسلًا بَرِّيًّا”. إنّ طريقةَ عَيش يوحنّا المعمدان مِن حيث اللِّباس والطَّعام تُشبِه إلى حدٍّ بعيد طريقةَ عَيش النبيّ إيليّا في العهد القديم. وَلَيسَ عن عبثٍ، قال الربّ يسوع: “إنّ يوحنّا قد أتى بِرُوح إيليّا”، وهذا الكلام لا يعني أبدًا التقمّص أو التناسخ، إنّما يعني أنّ لُبَّ مضمون النبوءة الّتي أتى بها يوحنّا المعمدان هو نفسه لبُّ مضمون النبوءة الّتي أتى بها النبيّ إيليّا قَبْل مجيء المسيح. لم يأتِ النبيّ إيليّا مرّةً جديدةً، بل جاء يوحنّا المعمدان بمضمون رسالة النبيّ إيليّا نفسها. “ويأكُل جَرادًا وعَسلًا بَرّيًّا”: إنّ هذه العبارة تُشير بوضوحٍ إلى حياة النُّسك والزُّهد الّتي كان يعيشها يوحنّا المعمدان، وطريقة العَيش هذه تدلّ على أنّه لم يكن يسعى وراء أيَّ مَكسَبٍ ماديّ في هذه الحياة إذ إنّه لا يسمح لأيّة حاجةٍ بشريّة أن تعيق مَسيرتَه في تحقيق الرِّسالة الّتي جاء من أجلِها. إنّ مَسيرة يوحنّا المعمدان وتَمسُّكَه بِرِسالته قادته إلى الموت بِقَطع الرأس لأنّه لم يرضخ لا لترهيبٍ ولا لترغيبٍ، إذ إنّه لا يخاف مِن شيءٍ ولا يحتاجُ إلى أيّ شيء من هذه الحياة.

“وكَان يَكرِزُ قائلًا: “يأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنِّي، الّذي لَسْتُ أهلًا أن أنحَنيَ وأَحُلَّ سُيُورَ حِذائهِ. أنا عَمَّدتُكُم بِالماءِ، وأَمّا هو فَسَيُعمِّدُكُم بِالرّوحِ القُدُسِ”. لقد استعمل الإنجيليّ مرقس في هذه الآية عبارة “أقوى منّي”، للدلالة على القوّة الّتي يريد إظهارها في كلِّ إنجيله. إذًا، لقد فَصَل يوحنّا المعمدان منذ البداية، بَينَه وبين الربّ يسوع، بَين عمله وبين عمل الربّ يسوع، بين معموديّـته وبين معموديّة الربّ يسوع، وكأنّ يوحنّا المعمدان يقول صراحةً للمؤمِنِين إنّه يُمنَع عليهم مَنعًا باتًا الخلط ما بينه وبين الربّ يسوع.

“أنا عَمَّدتُكُم بِالماءِ، وأَمّا هو فَسَيُعمِّدُكُم بالرّوحِ القُدُسِ”: في هذا الكلام، نشعر وكأن يوحنّا يُعلِن عن انتهاء دورِه في تمهيد الطَّريق أمام الربّ، وبالتّالي عن بداية دَور المسيح وإعتِلانِه أمام المؤمِنِين مبتدئًا برسالته الخلاصيّة.

بِهذا الكلام، يُعلِن لنا الإنجيليّ مرقس عن انتهاء المشهد الأوّل وعن بداية المشهد الثاني من هذا الإصحاح، وهو إعتلان الربّ يسوع: “وَفي تِلك الأيّام، جاء يَسوع مِن ناصِرَةِ الجَليل واعتَمَد مِن يوحَنّا في الأُردُنِّ”. في هذه الآية، يُخبرنا الإنجيليّ مرقس أنّ الربّ يسوع قد اعتمد على يد يوحنّا المعمدان، مِن دون أن يأتي على ذِكر النِّقاش الّذي دار بين الربّ يسوع ويوحنّا المعمدان قَبل اعتماد الربّ، الّذي أورَده الإنجيليّ متّى في إنجيله: “دَعنا الآن لِنُتّم كلّ برّ”(متى3: 15). هنا، عند الإنجيليّ مرقس نجد مُلَّخصًا سريعًا لمعموديّة الربّ يسوع.

“ولِلوَقتِ وهو صاعِدٌ مِن الماءِ رأى السَّماواتِ قد انشَقَّتْ، والرّوحَ مِثل حَمامةٍ نازلًا عَلَيه”: إنّ الإنجيلي مرقس هو مِن أكثر الإنجيليّين الّذين استعملوا عبارة “للوقت”، أو “فجأةً”، أو “للحال”. إنّ الكثير مِن نُقّاد الكِتاب المقدَّس اعتَبروا أنّ إكثار الإنجيليّ مرقس من استعماله لهذه العبارة يشير إلى ضُعف قدرته على الكتابة بأسلوبٍ عالٍ؛ أمّا التَّفاسير الجديدة المعمّقة، فَقَدْ أشارَتْ إلى اكتشافها عمق الأسلوب الأدبيّ للإنجيليّ مرقس بسبب كثرة استعماله لهذه العبارات. وهذا ما سنكتشفه نحن أيضًا في المقاطع الإنجيليّة القادمة. في هذه الآية، استعمل الإنجيليّ مرقس عبارة “السّماوات قد انشقّت”، للدّلالة على القوّة. في الفكر اليهوديّ، غالبًا ما يستخدمون عبارة “وسَكَت الرُّوح” للدلالة على الفترة الزمنيّة الّتي أُقفِلَت فيها السّماء على الشّعب اليهوديّ، بسبب عدم طاعة هذا الأخير لله، ممّا أدّى إلى انقطاع التواصل بين الشّعب اليهوديّ والله. إنّ الإنجيليّ مرقس يقول لنا مِن خلال كلامه عن معموديّة يسوع إنّ السّماوات قد أُعيد فَتحُها إذ إنّها انشقَّت باعتماد يسوع ونزَل الرُّوح عليه بشكل حمامةٍ وعاد التواصل بيسوع المسيح ومن خلاله بين الله وشعبه.

“وكَان صَوتٌ مِن السَّماوات: “أنتَ ابْني الحَبيب الّذي بهِ سُرِرتُ”. في ترجماتٍ أُخرى، نقرأ: “هذا هو ابني الحبيب”. إخوتي، هناك فرقٌ بين التَّرجمتين: فحين يقول لنا الله على لسان الإنجيليّ مرقس: “هذا هو ابني الحبيب”، فهذا يعني أنّ الآب يشير إلى الحاضِرين، على هويّة الربّ يسوع قائلاً فيه إنّه ابنه الحبيب. ولكن حين يقول لنا الله الآب عن ابنه يسوع على لسان الإنجيليّ مرقس “أنتَ ابني الحبيب”، فهذا يعني أنّ هذا الكلام موَّجهٌ إلى الابن مباشرةً، لا إلى الآخَرين. إذًا، مِن خلال هذا الكلام، نجد أنّ الآب يُعلِن مسرَّته مباشرةً بابنه؛ وهذا التَّعبير عن مَسرّة الآب لِابنه مباشرةً هو أكثر قوّةً من إعلان الآب مَسرّته للنّاس بابنه.

“ولِلوَقتِ”: هذه العبارة هي إداةٌ رَبطٍ بين الجُمَل، وتُعبِّر عن ضعف في بُنيَة النّص مِن حيث الشّكل، ولكنّها في الحقيقة تدلّ على قوّة في البُنية لأنّ كلمة “للوقت” أو “للمفاجأة”، تدلّ على تَدخُّلٍ إلهيّ غير منتظرٍ، وغير مُدرَكٍ عند القارئ.

“وَلِلوَقتِ أَخرَجَهُ الرّوحُ إلى البَرّيَّة، وكَان هُناك في البَرّيَّة أربَعِين يَومًا يُجَرَّب مِن الشَّيطان. وكَان مع الوحوشِ. وصارَتِ الملائكةُ تَخدمُهُ”. إنّ كلمة “أَخرَجَه” هي مِن أصعب الكلمات لأنّ الإنجيليّ مرقس يستعمل هذا الفِعل “أَخرَجَه” بالصِّيغة نفسها الّتي كان يستخدمُها الربّ يسوع، عندما كان يُخرِج الشّيطان من جسم إنسانٍ. وبالتّالي، الفِعل “أخرَجَه” يعني اقتادَه بالقوّة، بالشّراسة نفسها. أمّا هنا، فنرى أنّ الإنجيليّ مرقس يقول لنا: “ولِلوَقتِ أَخرَجَهُ الرّوحُ إلى البَرّيَّةِ”، وهذا يعني إقتيادٌ قَسريّ، اقتيادٌ “عُنفي”، لأنّ الربَّ لا يُقتاد بالقوّة إلى أيّ مكانٍ، ولكن مِن خلال هذا الاقتياد العنفيّ أظهر لنا الإنجيليّ مرقس عمل الرُّوح في الربّ، فبَرهن الربّ حقيقةً أنّه ابن الله الحبيب. إذًا، هذه العبارة لا تدلّ على امتيازٍ أُعطيَ من الله الآب إلى الربّ يسوع بأنْ يكون الابن الحبيب له، إنّما هي عبارةٌ سيُبرهِنُها الربّ يسوع في كلِّ إنجيل مرقس: “أنتَ ابني الحبيب الّذي به سُرِرْت”. إنّ عبارة “أنتَ ابني الحبيب الّذي به سُرِرْت” مأخوذةٌ مِن مَكانَين في العهد القديم: فالقِسم الأوّل منها،”أنتَ ابني” مأخوذٌ مِن المزمور الثاني: “أنتَ ابني وأنا اليوم وَلَدتُكَ”، والقِسم الثّاني منها “الّذي به سُرِرت” مأخوذٌ من أناشيد عبد يَهوه في سِفر إشعيا النبيّ الّذي يقول: “هذا مختاري الَّذي به سُرَّت نفسي، الّذي به سُرَّ أن يُسحَق بالعاهات، بالحزن” (إشعيا 53). إذًا، إنّ مسرَّة الآب تَظهَر في تنفيذ الابن لمشيئة أبيه، وفي جَعْلِ الابن الحبيب عن يَمين الآب لِيَسحق كلَّ أعدائه. إذًا، الربّ يسوع سيُحَقِّق بنوتّه للآب وسيُبَرهنها، ليس فقط بِكونه ابن الله، بل أيضًا سيُبرِهنها بِعَمِله، أي من خلال طاعته للآب حتّى الموت، موت الصّليب.

“وكَان هُناك في البَرّيَّة أربَعينَ يَومًا يُجَرَّبُ مِن الشَّيطان. وكَان مع الوحوش. وصارَتِ الملائكةُ تَخدمُهُ”: إنّ الرّقم “أربعين” يدلّ إلى الأربعين سنة الّتي قضاها شعب إسرائيل في البَريّة. إنّ الشّعب الإسرائيلي طيلة هذه السَّنوات الأربعين في البَريّة كان يُجرِّب الله، لذلك قال الله لموسى: “لماذا تُجرِّبونني؟”، ولهذا السّبب كانت الوصيّة “لا تُجرِّب الربَّ إلهَكَ”. كان الشّعب يُجرِّب الله في البَريّة لأنَّ الشَّعب كان يُهدِّد لله باستمرارٍ بالعودة إلى عبوديّة فِرعون في مِصر، إن لم يُحقِّق لهم مطالِبَهم: أي تأمين الطّعام لهم مِن مَنٍّ وسَلوى. أمّا هنا، فنَجد أنّ “إسرائيل الحقيقيّ” أي يسوع المسيح كان يُجرَّب ليس مِن الله، ولم يَكن هو يُجرِّب الله، بل كان يُجرَّب من الشّيطان. إستعمل الإنجيليّ مرقس عبارة “الشّيطان” أي المدّعي العام، بِحَسب اللّغة الأصليّة للكلمة. وهنا نتذكَّر، ما وَرَد في هذا الإطار في العهد القديم، حين دار نقاشٌ بين الشّيطان والله حول أيّوب في سِفر أيّوب، إذ نقرأ فيه إدّعاء الشّيطان بأنّ أيوب يَتبَع الله ويُطيعه لأنّ الله كان يَفيضُ عليه النِّعم بسبب طاعته له، فكان أيّوب يعيش في حالةٍ من الازدهار. فبالنّسبة إلى الشّيطان، إذا تمَّ امتحانُ أيّوب، فإنّه ولا شكّ سَيَترك هذا الأخيرُ الله. إذًا، كان الشّيطان هو المدّعي العام على أيّوب. فبدأت المعركة بهجومٍ من الشّيطان على أيّوب، فانتصر أيّوب عليه أي أنّ الله قد انتصر على الشّيطان باختياره أيّوب. وها هي المعركة تُعاد من جديد ولكن مع الربِّ يسوع، إذ قد “إقتيد” إلى البَريّة مِن قِبَل الرّوح ليُجرَّب من الشّيطان. كان الربّ يسوع في البريّة مع الوحوش. لقد استعمل الإنجيليّ مرقس في إنجيله عبارة “الوحوش” إذ إنّه من الطبيعيّ أن يكون هناك وحوش في البَريّة، واستخدام عبارة “الوحوش” تُشير إلى أنّ الربّ يسوع كان مُعرَّضًا في كلِّ لحظةٍ للموت في البَريّة. ولكنّ الإنجيليّ مرقس لم يُفصِّل لنا التَّجارب كما فَعَل كلٌّ من الإنجيليَّين متّى ولوقا إذ تكلّما على ثلاث تجارب، تعرَّض لها الربّ. إنّ هذه التّجارب الثَّلاثة لم يشرحها الإنجيليّ مرقس، ولكنّه ذَكَرَ لنا شيئًا أساسيًّا ومُهمًّا جدًّا، وهو أنّه بعد إعلان الله لابنه بأنّه هو ابنه الحبيب، جاء يسوع إلى البريّة لِيُؤكِّد إعلان الله أوّلاً مِن خلال عدم خضوعه للشّيطان، فالربّ لم ينهزم أمام الشّيطان، على الرّغم مِن تَواجُد الوحوش في البَريّة، والدَّليل هو ما خَتم به الإنجيليّ مرقس كلامه عن وجود يسوع في البَريّة إذ قال لنا: “صارت الملائكة تخدمه”. إنّ الملائكة تَخدُم الله، وإذ بها تَخدُم المسيح. وهذا يعني أنّه بآياتٍ قليلةٍ ومختصرةٍ، أخبَرَنا الإنجيليّ مرقس عمَّا استغرق الإنجيليّ متّى والإنجيليّ لوقا وقتًا طويلاً لإخبارنا به. فالإنجيليّ مرقس يريد إخبارنا عن الربّ من خلال الحديث عن قوته وسُلطانه اللّتين أعلن عنهما في بداية هذا الإصحاح.

“وبَعدَما أُسلِمَ يوحَنّا جاء يَسوع إلى الجَليل يَكرِزُ بِبِشارة مَلَكوت الله ويَقول: “قد كَمَلَ الزّمانُ واقتَرَبَ مَلَكوت الله، فَتُوبوا وآمِنوا بالإنجيل”: هذه هي ميزة الإنجيليّ مرقس، وهي أنّه يستخدم عبارة “الإنجيل” في كتابه 8 مرّات، وهذا ما لم يفعله أحدٌ غيره من الإنجيليِّين. إنّ كلمة “إنجيل” تعني المسيح كما تعني الله، كما تعني الإنجيل بمعنى الكِتاب. إنّ عبارة “قد اكتَمَل الزّمان” تعني أنّ الوقت قد أتى، ذلك الوقت الّذي فيه يُرسِل الله مَسيحَه ليَعمَل مشيئتَه. إنّ عبارة “لقد اقترب ملكوت الله” لا تعني أنّ الله قد اقترَبَ زمنيًّا، إنّما تعني عند الإنجيليّ مرقس أنّه اقترَب مكانيًّا، أي أنّ ملكوت الله قد أصبح أمام المؤمِن، وبالتّالي لا يمكن للمؤمِن أن يتجاوزه أو يُلغيه من طريقه أو أن يتجنَّبَه أي أن يَتعامى عن رؤيته لأنّه أصبح أمامه، وبالتّالي لا يمكن للمؤمِن إلّا مواجهة الملكوت متّخِذًا منه مَوقِفًا مُحدِّدًا أيَّ طريقٍ سيَسلُك في هذه الحياة. إنّ عبارة “توبوا”، في العِبريّة تعني “شوبو” أي عودوا، إرجعوا وآمنوا بالإنجيل. إذًا، هناك التَّوبة أوّلاً بمعنى قرار العودة إلى الله؛ وثانيًا بمعنى أن تؤمِن بالإنجيل: وهذا لا يَعني فقط أن تؤمِن بالله الَّذي كُنتَ تؤمِن به، بل تعني أنّه عليك أن تؤمِن بالإنجيل، أي أنّه عليك أن تؤمِن بِيَسوع المسيح وبِعَمِلِه. إذًا، الإنجيليّ مرقس يقوم بعمليّة نَقَل الدَّفة مِن الله إلى يسوع المسيح والإنجيل. فبالنسّبة إلى الإنجيليّ مرقس، اليهود قد آمنوا بالله ولكنّهم صَلبوا المسيح؛ وبالتّالي لا يكفي فقط أن تؤمِن بالله وحسب، فهذا وحده لم يَعُد يكفي، بل أصبح مطلوبًا أن تؤمِن بالإنجيل وبالمسيح، لأنّه إن لم تؤمِن بالإنجيل وإن كُنتَ تؤمِن بالله، فهذا يعني أنّك وثنيّ. إذًا، اليهوديّ الّذي لا يؤمن بِيَسوع المسيح أنّه المخلِّص والّذي لا يؤمِن بإنجيل يسوع المسيح هو وثنيّ. وهذا الأمر قد قاله قَبْل الإنجيليّ مَرقُس، الرَّسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: إذا كُنتَ لا تؤمِن بِيَسوع، فإنّك تكون ابنَ هاجَر، لا ابن سارة. وهذا الكلام قد سبَّب مشكلةً كبيرةً لِبُولس الرّسول، إذ أراد اليهود قتلَه بِسَبب هذا الكلام.

“وفِيما هو يَمشي عِند بَحرِ الجَليل أَبصَرَ سِمعانَ وأندَراوسَ أخاهُ يُلقِيان شَبَكَةً في البَحرِ، فَإنّهما كانا صَيَّادَين”. إذًا، لقد اعتمد الإنجيليّ مرقس، كما تلاحظون، أسلوبًا يساعده على إظهار بُنوَّة يسوع لله الآب، فتَجرَّب في البَريّة. لقد أعلن الإنجيليّ مرقس في هذا الإصحاح انتهاء دور يوحنّا المعمدان، وبداية دور يسوع المسيح بالكرازة الإنجيليّة، وأصبح ضروريًّا البدء بتنفيذ مشيئة الله مبتدئًا بِدَعوة التّلاميذ، وهذا ما بدأ الإنجيليّ مرقس بإخبارنا به: اختيار الربّ لتلاميذه ودعوته لهم لاتِّباعه. هنا، أوّد أن أُلاحظ معكم اختلاف الأسلوب عند الإنجيليِّين في ما يخصّ دعوة الرّسل: فَعند الإنجيليّ يوحنّا: “كان أندراوس، أخو سِمعان، واحدًا مِن الاثنين اللّذِين سَمعا يوحنّا: “فقال أندراوس:…. وهذا وجد أخوه سمعان”(يو 1: 40- 41)؛ وهذا يعني أنّه بحسب الإنجيليّ يوحنّا، أندراوس كان مدعوًّا أوّلاً وهو دعا أخاه سمعان إلى رؤية المسيح يسوع. أمّا عند الإنجيليّ مرقس، فنُلاحِظ أنّ الربَّ قد أبصر سمعان أوّلاً، ثمَّ دعا أندراوس أخاه. إنّ الإنجيليّ يوحنّا أراد التَّركيز على أندراوس وأنَّ سمعان هو أخ أندراوس، لأنّ اسم “أندراوس” يَعني “الشّجاعة”، والقدِّيس بطرس ظَهَر في خِتام إنجيل يوحنّا ناكِرًا للمسيح بسبب خوفِه من اليهود، أي أنّ القدِّيس بطرس بالنِّسبة إلى الإنجيليّ يوحنّا لا يتَّسم بالشّجاعة، في حين أنّ أخاه أندراوس يتحلّى بالشَّجاعة. في إنجيل مرقس، نلاحظ أنّ الربَّ “أَبصَر سِمعان وأندراوس أخاه يُلقيان شبكةً في البحر”. إنّ ما يهمّ الإنجيليّ مرقس هو أن يُلقي الضَّوء على سِمعان، لأنّ سمعان في إنجيل مرقس هو مَن سيَختاره الربّ لِيُكلِّفه كي يكون قائدًا للمجموعة الرّسوليّة، ولذا أعطاه اسم “بطرس”. لقد استخدم الإنجيليّ مرقس اسم “سمعان” للإشارة إلى الرَّسول “بطرس” لأنّه في القِسم الثّاني مِن إنجيله، نادى الربّ يسوع بطرس بِاسم “سِمعان” لأنَّه كان يتصرّف سمعان تصرّفًا شيطانيًّا مانعًا بِتَصرُّفه الربَّ مِن إكمال مسيرته نحو الصّليب. ولكنْ بعد قيامته من بين الأموات، عاد الربُّ وسمّاه “بطرس” عندما أعاد تكليفه بقيادة المجموعة الرَّسوليّة. إنّ الإنجيليّ مرقس كان قاسيًا جدًّا مع الرُّسل، إذ إنّه لا يعمد إلى تدليلهم؛ في حين أنَّ بقيّة الإنجيليِّين كانوا يقولون عن الرُّسل، عند ظهور الربّ عليهم بعد قيامته من بين الأموات، إنّهم كانوا “غير مصَدِّقِين مِن الفرح”، في حين أنّ عبارة “غير مصدِّقين” عند الإنجيليّ مرقس تُشير إلى وجود مشكلةٍ عند الرُّسل.

“فَقال لَهُما يَسوع: “هَلُمَّ وَرائي فأجعَلُكما تَصيران صَيّادَي النّاس”: إنَّ سمعان وأندراوس كانا صيَّادَي سمك، وقد جَعَلهما الربُّ صيَّادَي ناس، أي أنّه طلب إليهما أن يكونا من تلاميذه ورُسُله.

“فَلِلوَقتِ تَرَكا شِباكَهما وتَبِعاهُ”. يُخبرنا الإنجيليّ مرقس أنَّ الربَّ قد بدأ رسالته باختيار تلاميذه. وهنا، أريد أن أخبركم أنّ الإنجيليّ مرقس ليس مِن الرُّسل الاثني عشر إنّما مِن التّلاميذ السَّبعين، أي أنّه على مِثال لوقا الإنجيليّ. وهذا يعني أنّ الإنجيليّ مرقس كان شاهدًا للمسيح. في التَّقليد الكنسيّ، إنّ العِليّة الّتي أُقيم فيها العشاء السّرّيّ هي بيت مَرقس؛ وكذلك العِليّة الّتي اجتمع فيها التلاميذ بعدما ظهر عليهم الربّ قائمًا من بين الأموات هي بيت مرقس، والعِليّة الّتي اجتمع فيها التلاميذ في اليوم الخمسين وحلّ الرُّوح القدس عليهم فيها هي بيت مرقس. هذا كُلُّه دليلٌ على قُرب الإنجيليّ مرقس من الشّهادة الحيّة ليسوع المسيح.

“ثُمَّ اجتازَ مِن هُناكَ قَليلًا فَرأى يَعقوبَ بنَ زَبدى ويُوحَنّا أخاهُ، وَهُما في السَّفينَة يُصلِحانِ الشِّباكَ. فَدَعاهُما لِلوَقتِ. فَتَرَكا أباهُما زَبدى في السَّفينَة مع الأَجرى وذَهَبا وَراءهُ. ثُمَّ دَخَلوا كَفَرناحوم، ولِلوَقتِ دَخَل المَجمَعَ في السَّبتِ وصارَ يُعلِّم. فَبُهِتوا مِن تَعليمِه لأنّه كانَ يُعلِّمُهم كَمَن له سُلطانٌ ولَيسَ كَالكَتَبَة”. إخوتي، لقد قُمنا بمقدّمة حول إنجيل مرقس توقَّفنا فيها على “بدء إنجيل يسوع المسيح” الّذي هو المخلِّص والمختار وابن الله. وقد اكتشفنا أنَّ يوحنّا المعمدان قد مهَّدَ لِعَمل الربّ الخلاصيّ، وأنّه قد تمّ الإعلان عن بنوّة يسوع المسيح وإعطائه بَصمةً وتشريعًا إلهيًّا من الله الآب مِن خلال عبارة “أنتَ ابني الحبيب”؛ وأنّ الرُّوح القدس قد تدخّل ليُبَرهِن أنّ هذا الابن، يسوع المسيح، قد انتصر على الشّيطان في البَريّة إذ إنّه لم يُقهَر بل وَاجه الوحوش في البَريّة، وبعد ذلك الانتصار، صارت الملائكة تخدمه ممّا يعني أنّه برهن بنوّته للآب. إذًا، لقد أعطانا الإنجيليّ مرقس في هذا الإصحاح من كتابه موجزًا سريعًا عمّا سيستفيض في شرحه في إنجيله.

أمّا الآن، فإنّ الإنجيليّ مرقس يبدأ بتقديم تفاصيل ما أوجز كتابته في ما سبَق في هذا الإصحاح.  في التفاصيل: إنّ الربَّ قد بدأ بالكرازة بملكوت الله وباختيار تلاميذه ورُسُله، ثمّ عمد الإنجيليّ مرقس إلى إظهار قوّة الربّ وسلطانه كابنٍ لله من خلال صُنع الأعاجيب. إنّ أوَّل أعجوبةٍ قام بها الربّ، بحسب الإنجيليّ مرقس، بعد انتصاره على الشّيطان في البريّة، هي قَهرُ الرُّوح النَّجِس أي الشّيطان. إذًا، يركِّز الإنجيليّ مرقس في إنجيله على كلمة “سُلطان” أي القوّة: فالربّ يسوع يُعلِّم، ليس كالكَتَبة، بل يُعلِّم كَمَن له سُلطانٍ.

“وكان في مَجمَعهم رَجُلٌ بهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرخ قائلًا: “آهِ! ما لنا ولَكَ يا يسوع النَّاصِريّ؟ أَتَيْتَ لِتُهلِكَنا! أنا أَعرِفُكَ مَن أنتَ: قُدّوسُ الله!”. فَانْتَهَرهُ يسوع قائلًا: “اخرَسْ! وَاخْرُجْ مِنه! فَصَرعَه الرّوحُ النَّجِسُ وصاحَ بِصَوتٍ عظيمٍ وخَرَجَ مِنه”. إنّ  الشّيطان يعترف بِيَسوع لأنَّه يعرِف أنّه قدّوس الله. لقد انتهر يسوع الشّيطان قائلاً له: “اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ”. إنَّ كلمة “أُخرُج” هنا هي الكلمة نفسها الّتي استعملها الإنجيليّ مرقس، وبالقوّة نفسها، عندما أُخرِجَ يسوع إلى البريّة: التحدِّي نفسه. لقد انتصر يسوع على الشّيطان وتجاربه، وها هو الآن ينتصر على الشّيطان مِن خلال إخراجه من الإنسان، بالسُّلطان وبالقوّة الـمُعطاة له من الله الآب. لذا، اختار الإنجيليّ مرقس أن تكون الأعجوبة الأولى ليسوع في إنجيله هي قَهرُ الشَّيطان في الإنسان، إذ إنّ الإنجيليّ مرقس أراد التَّشديد على انتصار الربّ على الشَّيطان منذ بداية إنجيله. وكذلك في منتصف إنجيل مرقس، نلاحظ ظهور الشَّيطان من جديد عن طريق قَول بطرس للربّ، فكان جوابه الربّ لبطرس آنذاك: “اذهب خَلفي يا شيطان!”. وفي نهاية الإنجيل، يعود الشَّيطان ليَظهر مِن جديد من خلال مؤامرة اليهود على الربّ إذ صُلِب الربّ ومات على الصّليب، ولكنَّ الربّ هنا أيضًا عاد وانتصر على الشَّيطان بقيامته من بين الأموات.

“فَتَحَيَّروا كُلُّهم، حتّى سألَ بَعضُهم بَعضًا قائلِينَ: “ما هذا؟ ما هو هذا التَّعليم الجَديد؟ لأنّه بِسُلطانٍ يأمُر حتّى الأرواحَ النَّجِسةَ فَتُطيعُهُ!”. فَخَرجَ خَبَرُهُ لِلوَقتِ في كُلِّ الكُورَةِ المُحيطة بِالجَليل”. إذًا، إنّ سُلطان الربّ يَظهر هنا مِن خلال التعليم الجديد الَّذي يقدِّمه للشَّعب، أي أنّ الربّ أظهر قوّته مِن خلال كلمته أي الإنجيل الّذي يُبشِّر به. هنا، نفهم قَول الإنجيليّ مرقس: “توبوا وآمِنوا”. يقول لنا الإنجيليّ مرقس إنّ اليهود قد تعجَّبوا مِن التَّعليم الجديد الّذي يقدِّمه لهم الربّ يسوع لأنّه “يأمر بسُلطان، فتُطيعه حتّـى الأرواح النَّجِسة”. إذًا، إنّ سلطان يسوع هو بالأقوال وبالأفعال، وقد قال لنا الإنجيليّ مرقس هذا الأمر بِجُملةٍ واحدة، في حين أنّ الإنجيليّ متّى قد استغرق وقتًا أطول لقول ما قاله الإنجيليّ مرقس لنا بإيجازٍ. فالإنجيليّ مرقس قد أظهر لنا سُلطان يسوع بالأقوال من خلال ثلاثة إصحاحات، هي الإصحاحات 5 و6و 7، ومن ثمّ أظهر لنا سُلطان يسوع بالأفعال من خلال إصحاحَين هما الإصحاح 8 والإصحاح 9، حين سَرَد لنا المعجزات والعجائب. أمّا الإنجيليّ متّى فمِن خلال 5 إصحاحات، فسَّر وكتَب ما قاله الإنجيليّ مرقس في هذا الإصحاح.

“ولَمّا خَرَجوا مِنَ المَجمَع جاءوا لِلوَقتِ إلى بَيتِ سِمعانَ وأندَراوسَ مع يَعقوبَ ويُوحَنّا، وكانَتْ حَماةُ سِمعانَ مُضطَجِعةً مَحمومَةً، فَلِلوَقتِ أَخبَروهُ عنها. فَتَقدَّم وأقامَها ماسِكًا بِيَدِها، فَتَركَتها الحُمَّى حالًا وصارَتْ تَخدِمُهم. ولَمّا صار المَساء، إذ غَرَبَتِ الشّمسُ، قَدَّموا إلَيه جميعَ السُّقَماء والمَجانينَ. وكانَتِ المَدينةُ كُلُّها مُجتَمِعةً على الباب. فَشَفى كَثيرينَ كانوا مَرضى بِأمرَاضٍ مُختَلفةٍ، وأَخرَجَ شَياطينَ كَثيرَةً، ولَم يَدَعِ الشَّياطِين يَتَكلَّمونَ لأنَّهم عَرَفوهُ”. لاحظتم إخوتي، في هذا المقطع الصّغير، كم مِن مرَّة قَهَرَ يسوع الشّياطين، حتّى حين تكلَّم على شفائه لِحَماة بطرس، استعمل عبارة “ترَكَتها الحُمّى”، فالحمّى هي شيطانٌ، وبالتّالي أعطى الإنجيليّ مرقس صورةً عن المرض كأنّه شيطان، ليُبَرهِن قوّة يسوع وسلطانه على قَهر الشّيطان بِكُلِّ صُوَرِه، بِكُلِّ طُرُقِه، بكُلِّ أفعاله، وبِكُلِّ أشكاله. وهذا كُلُّه في مقطع إنجيليّ واحد.

“وَفي الصُّبحِ باكِرًا جدًّا قامَ وخَرَجَ ومَضى إلى مَوضِعٍ خَلاءٍ، وكانَ يُصلِّي هُناكَ، فَتَبِعَهُ سِمعان والّذِينَ معهُ. ولَمّا وَجَدوه قالوا له: “إنّ الجَميعَ يَطلُبونَكَ”. فَقالَ لَهُم: “لِنَذهَب إلى القُرى المُجاوِرة لأكرِزَ هُناك أيضًا، لأنّي لِهذا خَرَجتُ”. فَكانَ يَكرِزُ في مَجامِعهم في كُلِّ الجَليلِ ويُخرِج الشَّياطين”. إنّ عبارة “في الصُّبح باكرًا جدًّا” تدلّ وكأنّ الربّ قد أنهى عمله لهذا اليوم في قَهر الشَّيطان. وهنا يَظهر وكأنّ لا عَمَل ليسوع، عند الإنجيليّ مرقس، سِوى إخراج الشّياطين وقَهرها. ويُنهي الإنجيليّ مرقس هذا المقطع بالحديث عن شفاء أبرص، الّذي هو رمز النَّجاسة. “فأتَى إلَيهِ أبرَصُ يَطلُب إلَيه جاثيًا وقائلًا له: “إن أَرَدتَ تَقدِر أن تُطهِّرَني”. فَتَحنَّنَ يسوع ومَدَّ يَده ولَمَسَه وقال له: “أُريد، فَاطْهُرْ!”.فَلِلوَقتِ وهو يَتَكلَّم ذَهَب عَنه البَرَصُ وطَهَرَ. فَانتَهَرهُ وأرسَلَهُ لِلوَقتِ، وقال له: “انظُر، لا تَقُلْ لأحدٍ شَيئًا، بل اذهَبْ أرِ نَفسَكَ لِلكاهِن وقَدِّم عن تَطهيرِكَ ما أمَرَ بهِ موسى، شَهادةً لَهُمْ”. وأَمّا هو فَخَرجَ وابتَدأ يُنادي كَثيرًا ويُذيعُ الخَبَر، حَتّى لَم يَعُد يَقدِر أن يَدخُل مَدينةً ظاهِرًا، بل كان خارِجًا في مَواضِعَ خالِيَةٍ، وكانوا يأتونَ إلَيه مِن كُلّ ناحيَةٍ”. إنّ عبارة “أرِ نفسَكَ للكاهن” هي من أجل أن يحصل هذا الأبرص على شهادة الشِّفاء، ليتمكَّن من الإنطلاق في العيش مع الجماعة لأنّه كان ممنوعًا على الأبرص الاختلاط بالجماعة. إنّ عبارة “قدِّم عن تطهيرِك ما أمرَ به موسى” تدلّ على أنّ الأبرص يُطبِّق النّاموس. طَلَبَ الربّ يسوع إلى الأبرص ألَّا يُخبِر أحدًا كي يستطيع الربّ إفهام اليهود “سرّ المسيح” كما يريد هو، لا كما يريدونه هُم.

لاحظتم إخوتي، قال الربُّ يسوع للأبرص لا تُخبِر أحدًا، أمّا الأبرص فَقام بإذاعة الخبر وصارت الجموع تأتي إلى يسوع من كلِّ حَدْبٍ وصَوبٍ وصارت تَتبَعه. ليست غاية يسوع أن يكون قائدًا سياسيًّا أو قائدًا إجتماعيًّا، لذلك كان يطلب إلى كلّ مريضٍ ينال الشِّفاء أن يَكتُم ما حدث معه للوقت الّذي يريده الربّ. ولكنَّ الربَّ فَضَح نفسه بأنّه المسيح حقيقةً حين أعلَنَ عن تَنبؤاته حول موته على الصّليب. على الصّليب، أراد يسوع أن يقول للشَّعب اليهوديّ: “هذه هي المسيحيّة الّتي أتاني بها الله: أن أموت وأُصلب لأجلِكم، لا لأكون زعيمًا سياسيًا لكم”. 

إخوتي، نكتفي بهذا القدر من الكلام لهذا اليوم حول هذا الإصحاح الأوّل من إنجيل مرقس، وشكرًا.  

ملاحظة :دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp