تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“إنجيل القدّيس مرقس الرّسول – المقدّمة”
هذه السَّنة سنقوم بتفسير إنجيل مرقس. أوَّلاً، لأنَّ إنجيل مرقس هو أوَّل إنجيل كُتِب في التَّاريخ بين الأناجيل الأربعة. إنّ إنجيل مرقس كُتِبَ قبل إنجيل متّى ولوقا ويوحّنا، ولكن بعد كتابة رسائل مار بولس، وذلك بعد موت بطرس وبولس سنة 67 ميلاديّة، حيث صُلِب بطرس بالمقلوب وبولس مات بقطع الرَّأس. إنّ بطرس قد صُلب بالمقلوب لأنّه لم يكن يملك الجنسيّة الرُّومانيّة، لذا صُلَب كَعَبد، ولكنَّه رَفضَ أن يُصلب على مِثال معلِّمه، لذا طَلَب أن يُصلَب بالمقلوب، لأنّه لا يستحق أن يكون مصلوبًا كالربّ يسوع. أمّا بولس، فحُكْم الإعدام ضدَّه كان بِقَطع رأسه لأنّه كان يملك الجنسيّة الرَّومانيّة، وبالتّالي لا يجوز إعدامه بطريقة الصَّليب لأنَّ الصَّليب هو للعَبيد، أي للمُستَعمَرين لا للّذين يَملكون الجنسيّة. أمّا بولس فَكان يحمل الجنسيّة من الامبراطوريّة الرّومانيّة. لذلك، يُقطَع رأسه ليَموت سريعًا من دون أن يتعذَّب. إنّ مرقس هو تلميذ بولس. في مَجيئه الأوَّل، اختار الربّ تلاميذ له وبدأ بالعَمل التَّبسيريّ، صُلِب، ومات، وقام، وصعِدَ إلى السَّماء، على أساسِ وَعْده لتلاميذه بأنّه سيَعود.
إنّ الرُّسل كانوا موجودين وينقلون كلِمةَ الربّ إلى المسكونة بأسرِها. والمؤمِنون كانوا يتعزَّون ويتَقَوَّون بوجود الرُّسل بينَهم، ولو أنّ الربَّ لم يأتِ ثانيةً. ولكن بعد موت الرّسل، تَضعضعَتْ الكنيسة، أي المسيحيِّيون تضعضعوا لأنَّ من كانوا يُعطونَهم تعزيةً ورجاءً قد ماتوا. وبالتّالي، كان لا بُدَّ مِن طَرحِ السُّؤال: كيف لَم يأتِ المسيح بَعد؟ هل سيأتي المسيح فِعلاً؟ هل وَعدُ الربِّ للمؤمنِين به صادقٌ؟
لذا، كان لا بُدَّ من التِّلميذ أو الرَّسول مَرقس، تلميذ بولس أن يَكتب الإنجيل كي يقول للمؤمِنِين إنّ ما هو مهمّ أن تكون كلمة الله حيَّةً فيكم، والربّ يسوع حاضرًا في وَسَطِكم، وهو الّذي يَقودكم ويَحميكم ويُعزِّيكم ويُعطيكم الرَّجاء، وقَولُه لكم صادقٌ، وسيتحقَّق هذا القَول، ولكن بِحسبَ مشيئته هو. لذلك، عندما نقرأ إنجيل القدِّيس مرقس، يلاحظ الجميع أنّه من حيث الشَّكل هو إنجيلٌ بسيط، كُتِب لعامَّة الشَّعب، لذا، لا نَجد فيه خِطاباتٍ طويلة، كما نَجد على سبيل الـمِثال في إنجيل يوحنّا، الّذي كَتب فيه الرَّسول الخِطاب الوداعيّ في ثلاثة إصحاحات، أو كما كَتب الإنجيليّ متّى الموعظة على الجبل أو كما كَتَب لوقا الإنجيليّ الموعظة في السَّهل. إذًا، في إنجيل مَرقس لا وجود لخطاباتٍ طويلةٍ وكبيرة، إنّما هناك في هذا الإنجيل مجموعة قِصص. ولكن مرقس الإنجيليّ كَتَب إنجيله بأسلوب السَّهل الممتَنِع، وهذا يعني أنّه على الرَّغم من بساطة إنجيله هو في الوقت نفسِه عميقٌ جدًّا. وهذا ما سنكتشِفه مع دراسة إصحاحات إنجيله، على التَّوالي.
إنَّ صعوبة إنجيل مرقس تكمن في سهولة كتابته، لأنّنا سنكتشف، وكأنَّ مرقس يَكتُب قصَّة يسوع المسيح في الإنجيل، بموازات تَنقُّلات بولس في التَّبشير، هذا ما سنكتشفه من خلال تفسيرنا لإصحاحات هذا الإنجيل. إذًا، إنَّ إنجيل مرقس إصحاحاته قليلة بالنِّسبة إلى بقيّة كُتب الإنجيليِّين الثّلاث الآخَرين. إنّ إنجيل مرقس يتألَّف من ستَّة عشر إصحاحًا، حتّى إنّ الإصحاح السّادس عشر ينتهي في نِصفه كما يقول أكثر المفسِّرين للكتاب المقدَّس ونُقَّاده. فهذا الإنجيل ينتهي في القسم الأوَّل من الإصحاح السَّادس عشر، لأنّ القِسم الآخَر من الإصحاح السَّادس عشر يبدو وكأنَّ شخصًا آخَر كتَبَه.
فعندما ننظر إلى المخطوطة القديمة، نجد أنَّ الإصحاح السَّادس عشر ينتهي عند خوف النِّساء عند ذهابهنَّ إلى القبر، ولذا يبدو أنَّ مَن تابعَ نَسخ هذا الإنجيل استند إلى التقاليد الموجودة في محيطه لمتابعة كتابة هذا الإصحاح. كما أنّه مِن الممكن أن يكون الإنجيليّ مرقس قَد قَصَدَ إنهاء إنجيله عند خوف النِّساء لدى ذهابهنَّ إلى القبر، فيُشبه عندئذٍ الأدب الرؤيوي الّذي رأيناه في سِفر الرُّؤيا. في هذه المقدَّمة، أُوجِز لكم كلّ ما سنتكلَّم عليه في إنجيل مرقس قَبْل الغوص في التَّفاصيل. إنّ إنجيل مرقس ينفَرِد ببعض الأمور، على الرُّغم مِن أنّ أكثر ما نقرأه في إنجيل مرقس نستطيع قراءته عند الإنجيليّ متى، وكذلك عند الإنجيليّ لوقا.
ولكنّنا، نلاحظ وجود أمورٍ واردة عند متَّى ولوقا لم يأتِ الإنجيليّ مرقس على ذِكرها، على سبيل المِثال تجربة يسوع في البريّة. أمّا مرقس، فاكتفى بالإشارة إلى تجربة يسوع مِن خلال ذِكر آيةٍ واحدة عن الموضوع، حين قال إنَّ الربَّ يسوع قد جُرِّب من الشَّيطان مِن دون الدُّخول في تفاصيل التَّجارب الّتي تعرَّض لها الربّ يسوع. وهناك أمورٌ أخرى أيضًا لم يَدخل الإنجيليّ مرقس في تفاصيلها، نجد تفاصيلها عند الإنجيليَّين متَّى ولوقا. لذلك، تُسمَّى الأناجيل الثَّلاثة الأُولى أناجيل إزائيّة لأنّها إزاء بعضها البعض لأنّ المضمون في كلِّ واحدٍ من هذه الأناجيل الثَّلاثة مشابهٌ لمضمون الإنِجيلَين الباقِيَين. لكن، إنجيل مرقس في معظمه موجود في إنجيل متَّى وإنجيل لوقا، إنّما بطريقتهما وأسلوبهما. لذلك، عندما يُفسِّر النُّقاد نصًّا إنجيليًّا من الكتاب المقدَّس، فإنَّهم يضعون أمامهم النَّص نفسه الموجود في بقيّة الأناجيل الإزائيّة، ويقارنون بعضها ببعض، ولكنَّ المرجع يبقى مرقس الإنجيليّ لأنّه أوَّل مَن كتَب الإنجيل. لأنّ مرقس لم يستقِ من إنجيل متّى أو إنجيل لوقا، ولكنَّ العكس هو الصَّحيح.
وهنا، تكمن أهميّة هذا الإنجيل لأنّه لم يؤخَذ مِن إنجيل متَّى ولوقا، وكأنَّ الإنجيليّ مرقس قد استقى معلوماته مِن التَّقليد الرَّسولي الشفويّ نتيجة تَتَلمذه على يد بولس ومعرفته ببطرس، ومِن بقيّة الرُّسل. وبالتّالي، سنرى في إنجيل مرقس أمورًا مختصرةً، ولكن بِرُموزٍ كثيرةٍ وقويّةٍ جدًّا، تدفعنا إلى التَّأمُّل أكثر استنادًا إلى التَّقليد في رسائل بولس، وفي أعمال الرّسل، وفي الأناجيل الأخرى، الّتي هي مع رسائل بولس، تَبقيان المرجعيّة الأساس لباقي الأناجيل.
إنّ لكلِّ إنجيليّ رمزٌ: فالنَّسر يرمز إلى الإنجيليّ يوحنّا الّذي كَتَب سِفر الرّؤيا، والإنسان يرمز إلى الإنجيليّ متّى. إنّ الإنجيليّ يُرمز إليه بالنَّسر لأنّه حلَّق في الكتابة عن موضوع مَن هو يسوع، ابن الله الذي نَزل من السَّماء وتجسَّد، ابتدأ بِالحديث مِن فَوق، أمّا متّى فكتَب عن إنسانيّة يسوع، لوقا كتب عن يسوع على أنّه حَملٌ ذبيح لأجل العَالم، لذلك رَمْز الحَمل يشير إلى لوقا، أمّا مرقس فيُرمَز إليه بالأسد وذلك لأنّه ابتَدأ إنجيله بعبارة “صوت صارخ في البريّة”، أي كالأسد المزمجر في الصَّحراء. إذًا، مرقس يَرمز في التَّقليد الكنسيّ إلى صورة الأسد المذكورة في سِفر الرُّؤيا. وقد ابتدأ مرقس إنجيله بالعبارة التاليّة:”بَدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله” مِن دون أيّ مقدَّمات. وهذه هي بداية إنجيل مرقس: “بدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: “هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ، صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً” (مر 1: 1-3).
عند متّى الإنجيليّ، يبدأ الإنجيل بِنَسَب يسوع وقصَّة الميلاد. في إنجيل لوقا، نلاحظ أنّ الإنجيليّ لوقا يبدأ إنجيله بميلاد يوحنا وميلاد يسوع، ونَسَب يسوع. أمّا في إنجيل مرقس، فنلاحظ أنّ الإنجيليّ مرقس لم يأتِ على ذِكر نَسب يسوع، كما لم يأتِ على ذِكر ميلاد الربّ، بل بدأ مبشِّرًا بالكلام عن يسوع الّذي بدأ بالكرازرة. لذلك إخوتي، علينا أن ننظر إلى إنجيل مرقس على أنّه إنجيلٌ أوَّلي، والتساؤل حول عدم كتابته لقصَّة الميلاد ونَسَب يسوع، بل علينا أن نتساءل حول أسباب كتابة متّى ولوقا لقصَّة الميلاد والنَّسب، مع الإشارة إلى أنّ مرقس لم يذكر هَذَين الموضوعَين. إذًا، إنّ إنجيل مرقس يُعتَبر مرجعًا تاريخيًّا أوَّليًّا. في إنجيل مرقس، نلاحظ أنَّ الإنجيليّ مرقس يبدو قاسيًا على التَّلاميذ عندما يُخطِئون. فمَثلاً، يَعمَد الإنجيليَّان متَّى ولوقا إلى إخبارنا عن عدم تصديق التلاميذ لقيامة الربّ، قائلين لنا إنّه من شدَّة الفرح لم يُصدِّقوا قيامة الربّ. أمّا مرقس فلا يُعطي هذا التَّبرير للتَّلاميذ.
إنّ إنجيل مرقس لا يهتّم بِتَلميع صورة الرُّسل عند السامِعين وتَركِها صورةً ناصعةً ولامعةً. وإليكم أمثلة أخرى كي تتمكَّنوا من إدراك لماذا إنجيل مرقس هو سهل الفَهم ولكنَّه في الوقت نَفسِه عميقٌ. إنَّ بطرس كان اسمه “صفا” أو سِمعان. عندما أخطأ بطرس، وقال له الربّ: “سِر خلفي يا شيطان” (متى 16: 23)، في إنجيل مرقس، نلاحظ أنّ الإنجيليّ بعد هذه الحادثة لم يَعد يَذكُر اسم بطرس، بل أصبح يقول عنه سِمعان أي بِاسمه القديم، ذلك الاسم الّذي كان يحمله قَبل اتِّباعه الربّ. ولكنَّ مرقس عاد ليُسمّيَ سمعان بِاسم بطرس بعد قيامة الربّ. سنكتسف في دراسَتِنا لإنجيل مرقس، جِدِيَّة هذا الإنجيليّ في موضوع التَّلمذة، في موضوع الرَّسوليّة. وفي الوقت نفسه، هناك شيءٌ مميَّز في إنجيل مرقس وهو السِّر المسيحاني، الّذي كان ضاغطًا أو كابتًا على مفهوم يسوع المسيح، أي أنَّه ممنوع على أحدٍ أن يُبَشِّر أو يُعلِن عن الربّ يسوع، قَبل الإصحاح الثَّامن مِن إنجيل مرقس، حين أعلن الربّ عن الآمِه وماذا سيحصل له، ثمّ انطلق الإنجيليّ بالإعلان عن السَّر الـمَسِياني أو المسيحاني، كي لا يظنّ السَّامعون أنّ يسوع هو مَسيحٌ يهوديّ، أي أنّه جاء لِيَكون ملكًا أرضيًّا كما داود.
وبالتّالي، كي لا يُفهَم سرّ المسيح بشكلٍ خاطئ، بقيَ مُتَكتِّمًا على الموضوع إلى أنّ تَكلَّم الربّ في الإصحاح الثامن من إنجيل مرقس، عن آلام الربّ. إذًا، بالنِّسبة إلى الإنجيليّ مرقس، لا يمكن للمؤمِن أن يفهم مسيحانيّة يسوع من خلال أعاجيبه وقدرته، بل عليه أن يَفهم مَسِيحانيّة يسوع من خلال صَلبِه ومَوتِه ومن خلال تعرُّضه للاضطهاد من قِبَل اليهود: يسوع هذا المتألِّم لأجل كلمة الله الّتي نالها من الله أبيه. لذلك، يبدو واضحًا في إنجيل مرقس ما يُسمَّى بالسِّر المسيحانيّ الّذي لم يُركِّز الرّسل عليه، أي أنّه كشف عن يسوع المسيح منذ بداية كتابَتِه للإنجيل. إنّي أقوم اليوم بِمُوجَزٍ قد لا يبدو واضحًا تمامًا، ولكن لا بُدَّ منه حتّى متى بدأتُ بِشَرح إصحاحات هذا الإنجيل تتمَّكنون من تَذكُّر ما سمعتموه منِّي خلال هذه المقدَّمة.
إذًا، إنَّ إنجيل مرقس يتألَّف مِن ستة عشر إصحاحًا، من بين هذه الإصحاحات إصحاحٌ في غاية الأهميّة ويقال عنه إصحاحٌ رؤيَويّ: عندما يتحدَّث الربّ على لسان مرقس أو مَن يكتب عن مرقس هذا الإنجيل عن نهاية الأزمنة. إنَّ متّى ومرقس ولوقا كتبوا أيضًا عن نهاية الأزمنة. وإذا ما قارنَّا بين الإصحاحات الّتي تتكلَّم على نهاية الأزمنة عند هؤلاء الإنجيليِّين الثَّلاثة سنكتشف مَن نَقل معلوماته عمَّن. إنّ كلّ واحدٍ، ولا شكَّ، يتفرَّد عن الإنجِيليَّين الباقيَّين ببعض الأمور. ولكن هناك شيءٌ موحَّدٌ بَينَهم، وهناك شيءٌ متمايزٌ بَينَهم، وذلك بسبب خبرة كلّ واحدٍ منهم، ولكلّ واحدٍ منهم أسلوبه الخاصّ. ولكن القصَّة الّتي يكتبونها، يكتبونها كلٌّ من مِنظاره لينقلوا لنا الحقيقة نفسَها. وبالتّالي، عندما نقرأ ثلاث قِصَصٍ للحدث نفسه، نستطيع عندها فَهم المعنى الكامل للحقيقة الّتي يعرضونها لنا. تمامًا، كما عندما نجد أنّ حريقًا قد اشتعل في مكانٍ ما، فنلاحظ أنّ البعض قد ينقلون لنا في حديثهم عن قوّة النَّار في حين أنّ آخَرين يتكلَّمون على أضرار هذا الحريق وبما يُحيط به، في حين أنّ آخَرين يتكلِّمون على عدد الإصابات البشريّة والضحايا.
إذًا، هؤلاء جميعًا ينقلون إلينا الحدث نفسه ولكن مِن وجهات نظرٍ مختلفة، ممّا يجعل القارئ يُدرِك بشكلٍ أفضل الحقيقة الّتي أراد هؤلاء الثلاثة نقلَها له، فيتكوَّن لدى السّامع حقيقة ًكاملةً عن هذا الحدث. وبالتَّالي، هذا الاختلاف في الأناجيل لا يعني أنّ أحدهم على خطأ والآخَر على صواب، لأنَّ ليس هذا المهمّ في الموضوع، بل الموضوع هو مَن كان أقرب للحَدَث الّذي يَروونه لنا. إذًا، الموضوع هو كيف كَتَب هذا الإنجيليّ كتابَه وماذا يَقصد في الحَدَث الّذي دوَّنه. لذلك، خلال قراءتنا لإنجيل مرقس، علينا أن نرتِّب الأولويّات في عقلِنا. إنّ مرقس هو الّذي كَتَب أوّلاً، ومن ثمّ متّى ولوقا. إنّ مرقس كَتَب إنجيله بعد رسائل مار بولس. إنّ مار بولس بدأ بكتابة رسائله حوالي سنة 50 ميلادية، واستمرّ بالكتابة إلى يوم موته. لقد كتب مار بولس الرَّسول أربع عشرة رسالة بِحَسب التَّقليد الكنسيّ. وكان مرقس يعرف بولس جيِّدًا، لذا تجرّأ بعض النُّقاد وقالوا عن الإنجيليّ مرقس: هل كتب مرقس إنجيل يسوع المسيح أو كتب مرقس مسيرة بولس في التَّبشير؟ وذلك لأنَّ بولس ومرقس متشابهان في التَّسلسل الزَّمني لكتابة الإنجيل مع كتابة الرَّسائل. أمّا نحن فنقول، إنّنا نقرأ إنجيل يسوع المسيح كما كَتَبَه مرقس الإنجيليّ.
هناك صعوبة أُخرى ستُواجهنا في قراءة إنجيل مرقس، وهي أنّ هناك قراءتين للمخطوطة نفسها. بمعنى أنّه في الإصحاح الأوّل من إنجيل مرقس: هناك مخطوطة قديمة جدًّا تقول: “بَدءُ إنجيل يسوع المسيح” وهناك مخطوطة أُخرى تقول:”بَدءُ إنجيل يسوع المسيح، ابن الله”. وهنا يُطرَح السُّؤال أيّهما هي الأقرب إلى المخطوطة الصَّحيحة؟ نحن نبادر إلى اعتبار المخطوطة الثَّانية “بَدءُ إنجيل يسوع المسيح، ابن الله” هي الأقرب إلى أن تكون المخطوطة الصَّحيحة، ولكن الأقرب إلى المخطوطة الصَّحيحة في قواعد النُّصوص هو أنّ النَّص الأقصر هو الأقرب إلى النَّسخة الأصليّة. لأنّه لو كانت النَّسخة الأصليّة هي النَّسخة الأطول لما كان الّذي يَنسخ الإنجيل يُنقِص منه. ولكن، عندما يكون النَّص قصيرًا يستطيع النَّاسخ أن يُضيف كلمةً تُوضِح ما ينسخه. وبالتّالي، النَّص الأقصر هو الأقرب إلى النَّص الأصليّ. ثانيًا، النَّص الأصعب هو الأقرب إلى النَّسخة الأصليّة: فالمخطوطة الّتي تجد فيها تسهيلاً للصُّعوبات الموجودة في النَّص، تؤكِّد أنّ الّذي نسخ النَّص وَجد أنّه نصٌ صعب، فأراد تقديم بعض التوضيحات ليُصبح النَّص أسهل للفهم، مِن خلال شرح بعض الكلمات. وهذا الأمر نراه جليًا في الإصحاح الأوّل من إنجيل مرقس، كما نجده في المقطع الأخير من الإصحاح الأخير من إنجيل مرقس. وهذا يعني أنّه كلّ ما بَعد القيامة عن ظهورات يسوع، تُشَكّل زيادةً من النَّاسخ للنَّص الأصليّ.
لذلك، المخطوطة الّتي تبدأ بعبارة “بَدءُ إنجيل يسوع المسيح”، هي المخطوطة الأقرب لتكون النَّص الأصليّ، ولكن الّذي نسخ مخطوطةَ النَّص الأصليّ، بما أنّه مؤمِن بأنّ يسوع المسيح هو ابن الله، أضاف عبارة “ابن الله”. إنّ الموضوع لا يكمن في اعتبار ما قام به النَّاسخ عملاً صحيحًا أو لا، بل الموضوع هو أنّه هناك مخطوطة قديمة للنَّص نفسه، ونريد معرفة أيّة مخطوطة هي المخطوطة الأصليّة، أي الأقرب إلى النَّص الأصليّ. ولكن، إذا واجهنا مِثل تلك الصُّعوبات، علينا ألّا نقع في رَيبةٍ وشَكٍّ في اعتبار إحدى المخطوطات غير صحيحة. في القديم، لم يكن هناك طباعة، بل جميعها مخطوطاتٌ أي مكتوبةٌ بخطّ اليد، وبالتّالي كان الإنسان عندما ينسخ نصًا معيَّنًا كَتبه آخر كان ينسخه أو على وَرق من جِلد أو وَرق البَرَدى، أي قِشرة القصبة، ويتمّ لصقها وهذا الأمر يحتاج إلى الوقت، أي أنّه لا يمكن للنَّاسخ كلَّما أخطأ في الكتابة الاستعانة بوَرقةٍ جديدة، كما نفعل نحن اليوم. فتَصنيع ورقةٍ من جلد أو من البَرَدى يحتاج إلى وقتٍ طويل لصناعته، وبالتّالي، لا يمكن للكاتب على هذا النّوع من الوَرق أن يرمي هذه الورقة والاستعانة بورقة جديدة، وبالتّالي، لا مجال للخطأ، لذا كان الكاتب ينتقي كلماته قَبل تدوينها. ومَن ينسخ أيضًا يتَّبع الأسلوب نفسه والمسؤوليّة نفسها، لذا علينا أن نحتَرم المخطوطة الأقرب إلى النّص الأصليّ، كما علينا احترام المخطوطة الّتي نُسِخت عن المخطوطة الأصليّة.
إنّ كلّ المخطوطات الّتي وُضِعت في الفاتيكان، قد سُميَّت على اسم الفاتيكان، فتُسمَّى المخطوطة الفاتيكانيّة مع إضافة رقم إلى اسم المخطوطة، أو في دير القدِّيسة كاترينا في سينا، المخطوطات الموضوعة فيها تُسَّمى المخطوطة السِّيانيّة مع إضافة رقم إلى المخطوطة. إنّ هذه المخطوطات موجودة في الفاتيكان أو في دير سيناء أو في متاحف أُخرى أو في مكتبات قديمة جدًّا، وهناك مخطوطات لا زالت تُكتَشف حتّى يومِنا هذا من العهد القديم كما من العهد الجديد، نتيجة للأبحاث. أمّا الآن، فما كُتِب قد كُتِب، وما جُمعَ قد جُمِع، وهذا هو الكتاب المقدَّس الموجود بين أيدينا. وإذا كُشِف عن نصّ، إنجيل بطرس مَثَلاً، قد يتساءل البعض كيف لم يوضع إنجيل بطرس على سبيل المِثال ووُضِعت رسائل له فقط. هنا، أقول لكم إنّه نتيجة قيام الكنيسة بِدراسات حول هذه الأناجيل، وَجدوا على سبيل المِثال أنَّ إنجيل بطرس قد كُتِب سنة 150 ميلاديًا،
وهنا نَطرح السُّؤال كيف كَتبَ بطرس هذا الإنجيل في سنة 150 إن كان قد مات سنة 67؟ إنّ هذا يُشكِّل دليلاً على أنّ هذا الإنجيل لم يَكتبُه بطرس، وبالتّالي قد يكون مَن كَتَب هذا الإنجيل هُم تلامذة بطرس، وقد أطلقوا على هذا الإنجيل إنجيل بطرس مِن أجل نَشر هذا الكِتاب بشكلٍ أوسَع. وبالتّالي، مَن كان يُريد أن يسوِّق لأفكاره كان ينسبها إلى شخصٍ معروفٍ، كأُستاذه أو معلِّمه، أو أيّ شخصٍ آخَر ذي شأن في المجتمع. إذًا، هذا هو المعيار الأوّل الّذي نعتمده لمعرفة ما إذا كان هذا الإنجيل بين أيدينا صحيحًا أم لا: تاريخ موت مَن نُسِبَ إليه الكتاب وتاريخ كتابة الكِتاب، قبل البَدء بمقارنته بمخطوطاتٍ أُخرى لمعرفة أيّ نصٍّ هو الأصليّ. إذًا، علينا الاعتماد أوًّلاً على المعيار الأوّل، ألا وهو، إذا كان موجودًا صاحب الكِتاب في الزَّمان الذي كُتِب فيه كِتابه. وبما أنّ بطرس مات سنة 67، فهذا يؤكِّد أنّ إنجيل بطرس لم يَكتُبه بطرس. ثانيًا: مضمون هذا الإنجيل لا يؤكِّد أنّه يُترجم إيمان الكنيسة الأُولى، كجماعة، لأنّ في هذا الإنجيل، إنجيل بطرس، يَنقل إلينا أمورًا سحريّة قام بها يسوع. إنّ الكِتابات الإسلاميّة قد استَنَدت إلى الأناجيل الـمَنحولة على سبيل المِثال، إنجيل برنابا. إنّ إنجيل برنابا قد اتَّخذ اسم الرَّسول برنابا، مع أنّ برنابا لم يكتبه، لأنّ الرَّسول قد مات في القرن الأوَّل، بينما إنجيله مكتوب في القرن السَّادس عشر أو السَّابع عشر. وقد اكتشف النُّقاد أنّ هذا الإنجيل كتَبه شخصٌ إيطالي بعد أن أعلَن إسلامه، وقد نَسَبه إلى الرَّسول برنابا، كي يُسوِّق لأفكاره بعدما أَسلَم. وبالتّالي لا يمكننا اعتماد هذا الإنجيل، إنجيل برنابا كَمَرجع، كذلك الأمر في إنجيل توما وسِواها من الأناجيل المنحولة. ما هو بين أيدينا، هو العهد الجديد الّذي آمنَّا به، ونسير على أساسه، وهو رجاؤنا وهو كلمة الله. إذًا، أيَّ مخطوطة قد تُكتَشَف في يوم من الأيّام، لها مقياسَان علينا اعتمادهما لمعرفة ما إذا كانت هذه المخطوطة يجب أن تَدخل إلى مجموعة الكِتاب المقدَّس أو لا.
المعيار الأوّل هو إذا كانت هذه المخطوطة تُطابق تاريخِها مع تاريخ حياة صاحب الكِتاب المنسوب إليه، والمعيار الثاني هو مضمون هذا الكِتاب: هل ينسجِم مضمونه مع إيمان الكنيسة الأولى؟ إنّ هذه المقدَّمة تشكِّل أساسًا نبني عيله لِشَرح إنجيل مرقس بطريقة أفضَل وللاختيار ما بين التَّرجمات. عندما نقول هذه الكلمة قد أُضيفَت في بعض المخطوطات، ولكنَّها غير موجودة في المخطوطات الأصليّة، وخصوصًا أنّ إنجيل مرقس قد كُتِب باللُّغة اليونانيّة، وإنّ كلّ ترجمة لهذا النَّص المكتوب باللُّغة اليونانيّة، حتّى وإن كانت النوايا صافية، فيها خيانةٌ غير مقصودة للنَّص الأصليّ، لأنّه حين يُترجِم أحدهم نصًا ما، فإنّ ذاتيّة المترجِم ستَدخل في ترجمته. حتّى الَّذين يترجِمون النَّص مئة في المئة، يبقى هامش واحد في المِئة موجود للذاتيّة. لذلك، فإنَّ كلّ ترجمةٍ، مهما كانت عظيمة فيها خيانةٌ ولو بسيطة للنَّص الأصليّ. لذلك، عندما نقرأ نصًا إنجيليًّا باللُّغة العربيّة، من المستَحسن أن يَضع القارئ أمامه ترجمةً لهذا النَّص بلُغةٍ أُخرى هو يُتقِنها، فيتمكَّن من إقامة مقارنة بين النُّصوص عندها سيتمكَّن القارئ من الانتباه أكثر لبعض الأمور وفَهمها بشكلٍ أوضح. فمثلًا، في إنجيل يوحنّا، نقرأ “في البدء، كان كلمة الله”، باللُّغة الفرنسيّة نجد أنّ كلمة الله قد تُرجِمَت بعبارة “verbe” أي الفِعل. وبالتّالي ليس المقصود بعبارة “الكلمة” اللَّفظة الّتي ننطق بها، إنّما الكلمة الفاعلة. وقد تُرجِمت إلى عبارة في الـمُذكَّر، لأنّ المقصود بعبارة “الفعل” باللُّغة الفرنسيّة، هو يسوع المسيح. وبالتّالي، كي نتمكّن من استيضاح الصُّورة الموجودة في الإنجيل من المستَحسن الاعتماد على أكثر من لغةٍ لِتَرجمة النَّص الأصليّ الّذي دُوِّن باليونانيّة. إنّ الاختلاف موجود في التَّرجمات، حتّى العربيّة، فالتَّرجمة البروتستناتيّة مختلفة عن التَّرجمة اليسوعية كما تختلف عن الترجمة الأرثوذكسيّة، فيتَّضح أمامنا مقصد الكاتب، مقصد الإنجيل.
في بعض الأوقات سنُضطَّر إلى شرح إصحاحَين معًا. وفي أوقاتٍ أُخرى سنتكلَّم فقط على نِصف إصحاح. لذا، إخوتي أطلب إليكم السّماح بصلاحيّة الدِّراسة بِحسب النَّص الّذي نواجهه. ففي بعض الأوقات، قد نمرُّ سريعًا على بعض الأمور، لأنّها تكرَّرت في مكانٍ آخَر من الإنجيل أو قد نَتجنبُّها إذا كُنَّا قد شَرَحناها سابقًا. كما قد نتوَّقف عند بعض الأمور دون سِواها. لذا، أَطلبُ إليكم بعض الفسحة من الحريّة في هذا الموضوع، وهذا من أجل بنيانِكم لا من أجل هدمِكم. إنّ كميّة الـمُعجزات في إنجيل مرقس كثيرةٌ جدًّا. ولكن كميّة الخطابات قليلة. ولكن في أناجيل أُخرى، كميّة الخطابات طويلة ولكن كمِّية المعجزات قليلة. إذًا، لكلِّ إنجيليّ أسلوبه. ولكن، حين يسرد مرقس معجزةً ما، نلاحظ أنّ خطابها موجود ضمنها وعلينا نحن اكتِشافه.
أسال الله أن نتمكَّن من شرح إنجيل مرقس قَبل إنتهاء الدَّورة الّتي نقوم بها، لأنَّنا قريبًا سنتوقَّف بسبب بداية الصَّوم ومناسبة الأعياد، إضافةً إلى الظروف الّتي سَتُواجه البَلَد. في هذا البلد، نواجه ظروفًا غير مسبوقة، كما نواجه أوضاعًا غير منتَظَرة، وبلا تحليل ولا منطق. فنحن نعيش خارج المنطق، خارج الوضع الطبيعيّ في هذا البلد. فهل هذا هو لِتَربيَتنا أكثر، أم هو لِنَقل رسالة ما؟ علينا أن نعرف قراءة الأحداث المحيطة بنا، انطلاقًا من قراءتنا للإنجيل. على أمل أن نتمكَّن من إنهاء شرح إنجيل مرقس في الوقت المتاح لنا. ولكن ما يهمّني قوله هو أنّنا سنبدأ بدراسة إنجيل مرقس الأسبوع المقبل في الإصحاح الأوّل والثاني معًا من إنجيل مرقس.
اليوم أكتفي بهذه المقدَّمة لأُدخلكم في أجواء كتابة الإنجيليّ مرقس لِكتابه هذا. لذا، أتمنَّى عليكم “لِمَن له القدرة”، فنَحن جميعًا لدينا القدرة على، قراءة إنجيل مرقس بأكمله، قبل البَدء بدراسته الأسبوع المقبل.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلِنا.