تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“إنجيل القدّيس مرقس الرّسول – الإصحاح الرّابع”
إنّ هذا الإصحاح من إنجيل مرقس هو عبارةٌ عن سلسلةِ أمثال أعطاها الربُّ يسوع للشَّعب، وقد ذُكِرت هذه الأمثال أيضًا في الإصحاح الثَّالث عشر من إنجيل متَّى. وهنا، أودُّ الإشارة إلى أنّ الأناجيل الإزائية، أي أناجيل متّى ومرقس ولوقا، تَتَشابه إلى حدٍّ بعيد، مع العِلم أنّها تتمايز عن بعضها البعض في بعض النُّصوص.
– النّص الإنجيليّ: (مر 4: 1-20)
“وَابْتَدَأَ أَيْضًا يُعَلِّمُ عِندَ البَحرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى البَحْرِ، وَالجَمْعُ كُلُّهُ كانَ عِنْدَ البَحْرِ عَلَى الأَرضِ. فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «اسْمَعُوا! هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالًا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَرًا. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَرًا يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ».
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ» وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ، فَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلَّا يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَمَا تَعْلَمُونَ هذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟ الزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ. وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ الْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهؤُلاَءِ كَذلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ المُحْجِرَةِ: الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلوَقتِ بِفَرَحٍ، وَلكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ، فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ الشَّوْكِ: هؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ،
وَهُمُومُ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. وَهؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً”.
شرح النّص الإنجيليّ:
لقد قام يسوع شخصيًّا بِتَفسير هذا الـمَثل، كما فَسَّر لاحقًا مَثَل الزّؤان. إنَّ الغرابة تكمن في اختيارِه هذا الـمَثل بالتَّحديد لتَفسيرِه، إذ يُعتَبر هذا الـمَثل سَهلَ الفَهم، مقارنةً بأمثلةٍ أُخرى أعطاها يسوع تتَّسِم بالصُّعوبة وتحتاج إلى تَفسير. إخوتي، هذا الـمَثل سهلٌ للفَهم مِن حيث التَّركيبة الأدبيّة، إذ يستطيع أيًّا كان عند سماعِه لهذا الـمَثل أن يُدرِك أنّ الربَّ يتكلَّم عن أربعةِ أنواعٍ من البَشر. إنّ الزَّرع قد وَقع في أراضٍ أربعَ مختلفة التُّربة، وهذا يعني أنّ كلمة الله قد وَصلَتْ إلى أربع فئاتٍ من البَشر، أي أنّ هؤلاء قد سمعوا كلمة الله. ولكن ما يُمَيِّز فئةً عن أُخرى من النَّاس هو طريقةُ تجاوبِها مع كلمة الله: فطريقةُ سماعِ الإنسان لِكَلمة الله وتَجاوبِه معها تُظهِر نَوعيّةَ مَعدَنِه، وتَخلُق هويَّتَه. إنّ الـمُبادِر هو الزَّارع، والزَّرع هو كلمة الله، والأرض هي الإنسان. إنّ الإنسان هو عَبَّارةٌ أي وَسيلة، مِن خلالها إمّا تموت كلمةُ الله فيه، وإمّا تنمو في داخله. وبالتّالي، إنّ أهميّة الزَّرع، أي أهميّة كلمة الله، تكمن في أنّها فضّاحةٌ لِما هو صالحٌ في الإنسان ولِما هو غيرُ صالحٍ فيه؛ أي أنّها تَكشِفُ الإنسانَ الّذي يسمع كلمة الله ويعمل بها، كما تَكشِفُ الّذي يسمع كلمة الله ويستهتر بها، وبالتّالي هي تَكشف الأرض الّتي ينتمي إليها الإنسان، أصالحةٌ هي أَم غيرُ صالحة. إذًا، إنّ كلمة الله تأخذ طابِعَ الدَّينونة.
لقد أخبَر يسوع الجموع الّذين سألوه تفسير الـمَثل أنّه يُكلِّم الآخَرين بالأمثال “لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلا يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلا يَفْهَمُوا، لِئَلّا يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ”. إخوتي، إنّ كلمةَ الله تُشكِّل الفُرصَةَ الأخيرة للإنسان، كي يتوب عن طريقِه الخاطئة ويَعود إلى الله. وَهُنا، قد يقول لي البعض: إنّ الإنسان قد يَسمع كلمةَ الله ويَتوب، فكَيف يقول لنا الربُّ: “لِئَلَّا يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ”؟ إخوتي، إنّ الربّ يَتَكلَّم على الّذين سَمِعوا الكلمة، ولكنَّهم لم يقبَلوا بها، فما نتكلّم عليه هُنا هو الفُرصَة الأخيرة الّتي تُعطى للإنسان كي يتوب. وهُنا أيضًا، قد يقول لي البعض الآخر مِنكم: أيُعقَل ألّا يُعطي اللهُ الإنسانَ إلّا فرصةً واحدةً للتَّوبة؟ إخوتي، إنّ مشكلَتَنا، نحن البشر، تكمن في أنّنا نَعتبر الفُرصة الّتي تُعطى لنا بأنّها ليست الفرصةَ الأخيرة، لذا نُمِهل ذواتَنا وقتًا للتَّوبة، ونَستَهتِر بالفرُصة الّتي أُعطيَت لنا. ولكن، عندما نَعتبر أنّ الفرصة الّتي حصَلْنا عليها اليوم هي الأخيرة، سيَكون اليوم بالنِّسبة إلينا، كما يقول الكِتاب: “وقتٌ مقبول، يومُ خلاصٍ”، وبالتّالي سَتَكون هذه الفرصة الـمُعطاة لنا للتّوبة مِفتاحًا للملكوت أو للدَّينونة. إذًا، إخوتي، علينا عدم الاستِهتار بِأيّةِ فُرصةٍ تُعطى لنا للتَّوبة، لأنّها قد تكون الأخيرة بالنِّسبة إلينا، إذ قد نموت من بَعدها. وهنا، علينا أن نسأل ذواتنا: ماذا سيَكون مصيرُنا، إذا مُتنا دون أن نَستَفيد مِن الفُرصة الّتي أُعطيَت لنا للتَّوبة؟
إخوتي، في هذا النَّص، أعطانا يسوع مَثَل الزَّرع، لأنّ كلَّ زَرعٍ لا بُدَّ له مِن أن يُحصَد. والحَصاد يُشير إلى الفَصل بين القمح والزُّؤان، أي إلى الفصل بين ما هو صالحٌ وجيِّدٌ من جهةٍ، وبين ما هو رَديءٌ وسيِّئٌ من جهةٍ أخرى؛ أي الفَصل بين ما يمكننا الاستفادة منه لإنتاج الخُبز وبين ما هو غيرُ صالحٍ إلّا للاستعمال كَتِبنٍ وعَلفٍ للحيوانات. إنّ كلّ حديثٍ عن الزّرع ينطوي على تلميحات عن الدَّينونة؛ وبالتّالي قد يكون ما زُرِع فيك هو فُرصَتُك الأخيرة للتَّوبة.
إنّ البَحر يعني العالَم الآخَر، أي خارج العالَم اليهودي، أي العالَم الوثنيّ، أي الأُمَم الأُخرى. إنّ عبارة “جَلَس على البحر” لا تعني أنّه جلس على المياه، بل تعني أنّه جلس في إحدى السُّفن كي يتمكَّن من مخاطبة الجموع الجالسة أمامه على الشَّاطئ. هذه هي صُورَة المعلِّم الرَّبانيّ في الأدب اليهوديّ، فالمعلِّم اليهوديّ هو الّذي يَنقُل كلمة الله أي “TORAH”، إلى الجموع الّتي تأتي إليه. إذًا، إنّ يسوع هو الّذي يُعطيTORAH الحقيقيّة، فهو الّذي يُفسِّر لنا كلمة الله، وهو الّذي يَكشِفها كشفًا أخيرًا. إنّ الأمثال هو أدبٌ موجودٌ في الدِّين اليهوديّ. كان الربُّ يسوع يستخدم هذا الأسلوب مع الوثنيِّين، حين كان يُعلِّمهم عن الملكوت، فَهُم لم يسمعوا بكلمة الله مِن قَبل، وَلِذا هُم لم يؤمِنوا بها. لقد أعطى الربُّ يسوع هذا الـمَثل ليُخبِرَنا أنّ كلمة الله مزروعةٌ في هذا العالَم. في القرون الوُسطى، كان الآباء القدِّيسون في الشَّرق يستخدمون عبارة “الكلمة المزروعة”، ما ترجمته في اليونانيّة LOGOS SPERMATICOS، في الإشارة إلى كلمة الله، وهذا يعني أنّه كما يُزرَع السّائل الـمَنويّ في حشا المرأة فيُثمِر جنينًا أي حياةً؛ كذلك كلمة الله تُزرَع في هذا العالَم، فَمَن يتجاوب معها تُثمِر فيه حياةٌ. إذًا، الهدفُ مِن أيِّ زرعٍ كان هو إعطاء الحياة. إنّ كلمة الله، “الكلمة المزروعة” في هذا العالَم، لا بُدَّ لها مِن أن تُوَلِّد ردودَ فِعلٍ عند السَّامِعين لها: فَمِنهم مَن سيَقبل بها، ومِنهم مَن سيَرفضها، ومِنهم مَن سيَتردَّد في قبولِها.
إنّ الطريق تقع إلى جانب الحقل، إنّها مَمَرٌّ بين حَقلَين. وبالتّالي، على جوانب الحقل، قد يكون هناك تُراب؛ أمّا على الطّريق فليس هناك مِن تُراب، وإذا وُجِد فإنّه يكون قليلاً جدًّا. إنّ عبارة “الطريق” تُشير إلى أنّ مَن يرغب في الزّرع، عليه ألا يُحدِّد الأماكن الّتي يرغب في زراعتها، لأنَّه عليه أن يرمي البِذار في كلّ مكان. إنّ الله هو الزّارع الأوّل للكلمة، وما الإنسان إلّا مساعدٌ له، وبالتّالي على الإنسان أن يُدرِك أنّ البِذار، أي كلمة الله، ليست منه، وهذا يعني أنّه عليه أن يرمي كلمة الله في كلّ مكانٍ، أي من دون أن ينتَقي الأماكن الّتي يعتبرها صالحة لاستقبال كلمة الله والتّفاعل معها. وإليكم مِثالاً توضيحيًّا على ما أقول: حين يكون المؤمِن موجودًا في إحدى الجلسات، يقوم بألفِ حسابٍ لما سيُقال عنه، إذا تَفوَّه بكلمة الله أمام الحاضرين؛ ولا يقوم بِحِساب ما ستَفعَله كلمة الله الّتي سيتَفوَّه بها في نفوس السَّامِعين لها. لهذا السَّبب، يقع المؤمِن في الخوف والتردُّد.
إخوتي، على المؤمِن بالله، لا أن يتلو على مسامعَ الآخَرين آياتٍ كتابيّة قد حَفِظها غيبًا، بل عليه أن يَنقُلَ إليهم خِبرَتَه مع كلمة الله الحيّة الّتي خرقَتْ كيانه، وغيَّرته مِن الدّاخل وحرقَتْ الخطيئة فيه، وحوَّلَتْه إلى منارةٍ للآخَرين وإنجيلٍ حيٍّ. حين يتحجّجُ المؤمِنُ بِقَول الإنجيل: “لا تطرحوا دُرَرَكم أمام الخنازير” (متى 7: 6)، كي لا يُعلِن كلمة الله، فهذا يعني أنّه قد حَكَم مُسبَقًا على الحاضِرين أمامه بأنّهم لن يَقبلوا كلمةَ الله الّتي سيَسمَعونها منه، مُعتَقِدًا أنّهم سيَسخَرون منه، عند سماعِهم لكلمة الله. وهنا، أودُّ أن أتلو على مسامعكم قصّة “ثقافة المِكواة”، الّتي تَقول لنا بأنَّ أحد السّاكِنِين في إحدى المباني قد إحتاج إلى مِكواةٍ، فقرّر استعارتها من جاره السَّاكن في الطّابق الأخير من المبنى. وعندما خرَج من بيته باتِّجاه جاره لطَلب الـمِكواة، كان يتخيّل كلّ الطّريق أنّ جاره سيُقابِل طلبَه للمِكواة بالرَّفض. وحين وَصل إلى باب جاره وقرع الباب، فتَح له الجار، فبَادر الّذي يريد المِكواة إلى شَتم الجار والصُّراخ عليه حتّى قَبلَ أن يُعلِن لِجاره عن سبب مجيئه إليه، وذلك نتيجة الأفكار المسبقة الّتي تَخيَّلها طولَ الطَّريق قَبلَ وصولِه إلى بيت الجار، فَخجِلَ من نفسِه وعاد إلى بيته من دون أن يطلبَ الـمِكواة.
إنّ ما نقوله اليوم يُؤسِّس لمعركة الجُرأة عند المؤمِن، معركة الوعي في معرفة الوقت الصَّحيح لإلقاء كلمة الله الحيّة والـمُحيية من جهة، والدَّيانة من جهة أُخرى، أمام الآخَرين. إخوتي، لسنا نحن مَن نَدينُ العالَم، بل كلمةُ الله؛ وَلَسنا نحن مَن نُحيي العالَم بل كلمة الله. نحن أرضٌ قد ظهرَتْ للآخَرين أنّها خَصبةٌ، لأنّ كلمة الله قد نبتَتْ فيها. نحن لَسنا القمح، وَلَسنا نحن مَن نُنَميه في الأرض، إنّما نحن فقط مجرّدُ حاضنِين له. إنّ احتضاننا للقمحة في داخلنا لا يعني أنّنا أشخاصٌ صالحون، بل يعني أنّ القمحة الّتي تمكّنَتْ مِن أن تَنبُتَ فينا قد أعطَتْنا شهادةً بأننا أرضٌ صالحة. إخوتي، إنّ الفَضل في نموّ الزَّرع لا يعود إلينا، بل إلى الله؛ فهو الزّارع وهو الّذي يعطينا الكلمة فيُحييها فينا، ونحيا مِن خلالها. حين نريد أن نُعلِن كلمة الله للآخَرين، علينا تَجنُّب الوقوع في أفخاخ الشَّيطان المتعلِّقة بالمكان والوقت والجماعة الحاضرة: فهو، أي الشَّيطان، يَعمل على إيهامِنا بأنَّ الوقت والمكان والمجموعة الحاضرة أمامنا، هي غير مُناسِبَة لإعلان كلمة الله، فنَتراجع عن البشارة بها. إنّ هذه الأفخاخ الثّلاثة الّتي يحاول الشَّيطان إيقاعِنا فيها، تُميت كلمة الله فينا، قَبلَ أن تَنبُتَ.
إخوتي، إنّ مِن السَّامعين لكلمة الله الّتي نُعلِنها، مَن يتحوَّل إلى أرضٍ خصبةٍ، إذا قرَّر التَّجاوب معها. هكذا كانت تنمو الكلمة في الجماعة المسيحيّة الأُولى، والدَّليل هو ما يُخبِرُنا به سِفر أعمال الرُّسل إذ نقرأ فيه لا أنّ عدد المسيحيِّين كان في تزايدٍ ملحوظ، بل أنّ “كلمة الله كانت تنمو”. إنّ عبارة “الكلمة كانت تنمو”، تعني أنّ عدد النَّاس الّذين قَبِلوها كان في تزايد مستمرٍّ. ولكن هنا، إخوتي، علينا الإشارة إلى أنّ الموضوع هنا ليس موضوعًا جماهيريًّا، فالمسألة هنا تتعلَّق في انتشار كلمة الله وتفاعل النَّاس معها.
إنّ الكتاب المقدَّس، من بدايته حتّى نهايته، يُخبرنا أنّ كلمة الله خلّاقةٌ، مُخَلِّصة، مُحيية وديّانةٌ في آنٍ معًا.
إنّ كلمة الله الخلّاقة ظهرَتْ في سِفر التَّكوين، من خلال عبارة: “ليَكن نورٌ، فكان نورًا”. ليَكُن…. فكان…: إذًا لقد خلَقَ الله العالَم بِكَلمتِه الخلّاقة.
إنّ كلمة الله الـمُخلِّصة ظَهَرَتْ مِن خلال كلام الأنبياء الّذين كانوا يُخبِروننا كيف كان اللهُ يُخلِّص شعبَه.
إنّ كلمة الله المحيية ظَهرَت مِن خلال يسوع المسيح الّذي تجسَّد فيما بيننا، وَفَدانا بموتِه على الصَّليب فأحيانا.
إنّ كلمة الله الدَّيانة ظهرتْ في سِفر الرُّؤيا، إذ أعلنَتْ عن نفسِها أنَّها ديّانةٌ للإنسان، أقَبِل بها أَم لم يَقبَل.
إنّ هذه الصُّوَر الأربعة لكلمة الله، يعيشها الإنسان في كلِّ يومٍ من حياتِه، لا عَبر مراحلِ زَمنيّة من حياته. ففي كلِّ صباحٍ، عندما تُصلِّي وتفتح الكِتاب المقدَّس وتقرأ مقطعًا منه، يقوم الله بإعادة خَلقِك مِن جديد، إذ يُعطيكَ ذهنيَّةً جديدةً انطلاقًا من الكَلِمة الّتي قرأتَها. إنّ كلمة الله لا تُشبه فُنجانَ القهوة الّتي تَحَتسيه في كلّ صباحٍ لِتَهدئة أعصابِك، لأنَّ هَدَفَ كلمةِ الله إعادةُ خَلقِكَ من جديد في صباح كلِّ يوم، بِصُورةٍ جديدة. إنّ كلمة الله الـمُخلِّصة تَختَبرها أيضًا في كلِّ صباح، لأنَّها تمنحُكَ فرصةً لِتَصحيح مسارِك الخاطئ في اليوم السَّابق، عندما تستيقظ من نومِكَ. فإذا كنَت لا تعيش الموت والقيامة في كلِّ يوم، فهذا يعني أنَّ هناك مشكلةً، في فَهمِكَ لِكُلِّ الإيمان. بالنِّسبة إليّ، كإنسانٍ مؤمِنٍ، النَّوم هو موتٌ قصير الوقت، والموت هو نومٌ طويل الأمَدّ. لذلك، نقول إنّ الّذين يموتون هُم راقدون، لأنّ الموت هو نَومٌ طويل الأمَدّ، لأنَّنا لا نعرف متى يعود هذا الإنسان ويقوم مجدَّدًا. أمّا النَّوم اللَّيليّ فَهو نَومٌ قَصيرُ الأمَدّ، لأنَّه حين تنام في اللِّيل تبدو للآخَرين وكأنَّك مَيتٌ؛ ولكن حين تستيقظ في اليوم التَّالي، فإنَّك تُظهر لهم أنَّك قُمتَ مِن بين الأموات، أي أنَّ الله قد خلَّصَكَ من موتِك القصير الأَمَد. وانطلاقًا ممّا نقول، على كلِّ مؤمِنٍ أن يُدرِك أنّه حين يستيقظ من النَّوم، أنّه قد خُلِق من جديد.
إذًا، كلمة الله الخلّاقة، هي أيضًا مُخلِّصةً للإنسان من الموت بكلِّ أشكاله، ومُحييةً له لأنَّها تُعطيه الحياة من جديد، كي يتمكَّن من إحياء الآخَرين بكلمة الله الّتي سيَتَفوَّه بها. فكلمة الله تُحيي كلَّ إنسانٍ يتفاعل معها. وأخيرًا، كلمة الله هي أيضًا ديّانةٌ، كما تَظهر لنا في سِفر الرُّؤيا بشكلٍ واضح، لأنّها تَدين كلَّ إنسان يَقتُلُها في داخلِه، بَدَل أن ينشرها بِطريقةٍ صحيحةٍ وبنّاءة. إنّ الإنسان المؤمِن لا يمكنه أن يستفيد من حياته على الأرض ويجعلها مُفيدةً للآخَرين، إذا قرّر انتقاء الأرض الّتي يريد أن يزرع فيها كلمة الله، إذ عليه أن يرمي البِذار الّتي معه، أي كلمة الله في كلِّ مكانٍ، مِن دون أن تَكون لديه أحكامٌ مسبقةٌ على سامِعِي تلك الكلمة وعلى تفاعُلِهم معها.
إخوتي، انظروا إلى الزَّارع، حين يذهب ليَرمي البِذار في حقلِه: فهو ينطلق من منزِله واضعًا على حَقَويه كيسًا من قماش يحتوي على كلِّ البِذار الّتي يريد رَميها في الحقل، وما إن يقترب من الحقل حتى يبدأ بِرَمي البِذَار بطريقةٍ عشوائيّةٍ غير آبهٍ إلى مكانِ وقوع تلك البِذار، أكانت على الطَّريق أَم في الحقل، لأنّ القمحَ كثيرٌ، والّذي ينمو هو أكثر مِن الّذي يموت، ولذلك نجد أنّ الزّارع يتحلّى بالرَّجاء والفرح لِمَجرَّد أنّه زَرَع. إنَّ الفرح الّذي يشعر به الزّارع حين يَحصد ما زرعَه، يُكمِّل فَرَحه الّذي شعر به حينما زَرَع. قد يأتي أحدهم ويحاول إفساد هذا الفَرح بإخباره أنَّ الزَّرع قد لا يكون على قدر توقّعاته، إلّا أن الزَّارع لا يأبه لهذا الكلام، لأنّه يُدرِك أنّه قام بما عليه القيام به، وهو الزَّرع. إنَّ الوقتَ الآن عند الزَّارع هو للفرح بما زَرع، والوقت يأتي لاحقًا للفرح بما سيَحصُد. إنّ الزّارع والحاصِد يفرحان معًا، نتيجة الكلمة الّتي زُرِعَت، ونتيجة الكلمة الّتي حُصِدَت.
إخوتي، إنَّ هذا الـمَثَل هو بسيطٌ للفَهم وصَعبٌ للفهم في الوقت نفسه. في هذا الـمَثل الّذي أعطاه يسوع وفَسَّره، لا يستطيع الإنسان إلّا مناقشة الزَّرع، إذا أراد، فيَطرح السُّؤال على نفسه حول كيفيّة مساهمته مع الزَّارع في الزَّرع. ولكن للأسف، غالبًا ما يسعى المؤمِنون إلى طرح السُّؤال كلّ يومٍ على ذواتِهم لمعرفة الأرض الّتي ينتمون إليها، في حين أنّه عليهم إدراك أنّهم ينتمون إلى الأرض الخَصبة لأنَّ الكلمة قد نبتَتْ فيهم، وبالتّالي عليهم السَّعي الآن إلى مشاركة الله أكثر فأكثر في الزَّرع. في هذا الإطار، يستخدم بولس الرَّسول عبارةً يونانيّةً هي synergon، وقد تُرجِمت في اللُّغة العربيّة إلى ما يلي: “العمل مع”. ولكنّ العبارة في اليونانيّة تُشير إلى ما هو أكثر من ذلك، إذ تعني لا “العمل مع”، إنّما تعني “الإندماج في العمل مع”. هذا هو المطلوب: أن يكون المؤمن مُندَمِجًا في الكلمة الّتي يُعلنُها للآخَرين، فلا يتصرَّف بعكس ما يقول. على المؤمِن أن يرمي كلمة الله في كلِّ مكانٍ، والربّ يهتمّ بِتَنمية الزّرع، فنُموّ الزّرع ليس شأن المؤمِن، فالقرار يعود إلى الله في نموّ الزّرع أو يَباسِه. إنّ صعوبة هذا الـمَثل تكمن في أنّه يَخلُقُ لكَ فخًّا شيطانيًّا يقوم على السَّماح لنفسِك في إعطاء الرّأي في طريقة الزّرع. لا يحقُّ لكَ، أيّها المؤمِن، حين ترمي الزّرع، أي كلمة الله، أن تُعطي رأيك في كيفية تَفاعُل السّامِعين معها. إنّه ليس مِن شأنك أن تعرِف إذا قَبِل السّامِعون كلمة الله أَم لم يَقبلوا بها؛ وما هي الصُّعوبات الّتي يواجهونها، من إغراءات وترهيب، والّـتي تمنعهم من قبول كلمة الله! أخي المؤمِن، ما عليكَ إلّا أن تقوم بِرَمي كلمة الله في كلِّ مكان، وتَفرح بإعلانك لِتِلك الكلمة، واترُك نتيجة عملِك إلى الله، فهو الّذي يهتمّ بِنُموّ الزَّرع. أخي المؤمِن، عليكَ أن تكون على ثقة ورجاء، بأنَّ كلمة الله الّتي تَخرج من فَمِك لا تعود إلى الله، إلّا بعد أن تكون قد أتمَّت عملَها في الأرض، حتّى وإن أظهرَتْ لك الحياة وما يدور مِن حولَك عكس ذلك. إنّ كلمة الله، حين تُعلنُها للآخَرين بِصِدقٍ، لا بُدَّ لها مِن أن تفعل فِعلها في العالَم، ولكن ليس بالضرورة أن تفعل فِعلها على أيّامِكَ، وليس بالضرورة أمامَك، وليس بالضرورة أن تعود بالـمَدح لكَ، وليس بالضّرورة أن تشعر بِسَبِبها بالافتخار والغرور، إذا مَدَحَك أحدهم قائلاً لكَ إنّ الكلمة الّتي نَطَقتَ بها قد أدَّت إلى توبته. إيّاك أن تَدفُنَ الكلمة الّتي زرعْتَها في الآخَرين ونَمتْ فيهم، في داخلِكَ من جديد، بِسَبب غرورِ الآخَرين مِن حولِكَ أو بِسَبب يأسِك وإحباطِك ممّا يحصل مِن حولِكَ! انتبهوا! لا تتعلّقوا بالنَّتيجة، بل تَعلّقوا بالعمل، وكونوا مُخلِصِين له.
إخوتي، في هذا الإصحاح، أسعى إلى بناء قاعدةٍ تأسيسيّةٍ لكلِّ ما سَنَقوم بمناقشَتِه في هذا الإنجيل، فَكُلُّ ما سنقرأه في الإصحاحات القادمة هو عبارةٌ عن أمثلةٍ مَلكوتيّة، تَقوم على دعوتِكَ إلى قبول كلمة الله لتَتَمكَّن مِن عيش الملكوت. مِن خلال هذا الـمَثل الّذي فسَّره يسوع، نستطيع أن نستَخلِصَ طريقةَ سلوكٍ لنا في هذه الحياة تُرضي الله، عاملين على تَجنُّب أفخاخ الشَّيطان من إغراءات وتَيئيسٍ، ترغيبًا وترهيبًا، إذ إنّنا في هذه الحياة أمام تحدٍّ كبير هو تحدِّي الدَّينونة. ولذلك، سَيَكون محورَ حديثِنا اليوم هو كيفيّة سماعنا لكلمة الله وتجاوبِنا معها كي تُثمر فينا ثلاثِين وستِّين ومئة. ننتقل الآن إلى مَثَلٍ آخَر، هو مَثلُ السِّراج.
– النّص الإنجيليّ: (مر 4: 21-23)
“ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لا يُظْهَرُ، وَلا صارَ مَكْتُومًا إلّا لِيُعْلَنَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا الـمَثل، يُركِّز الكاتب على عبارة: “مَن له أُذنانِ للسَّمَع، فليَسمع”. في هذا الـمَثل، نجد ذواتِنا أمام طَرحٍ جديد، وهو: كيف يستطيع الإنسان المؤمِن الّذي سمَع كلمة الله ألا يُعطي ثمرًا يَدلّ على قبوله بكلمة الله؟! أي، كيف يُعقَل للإنسان الّذي سَمِع كلمة الله وقَبِل بها، ألَّا يعمل على إعلان تلك الكلمة للآخَرين؟! إخوتي، إنّ وظيفة القَنديل هي الإضاءة. وبالتّالي، كيف يستطيع الإنسان المؤمِن أن يُضيء، من خلال نور كلمة الله الّذي فيه، للآخَرين الّذين يعيشون في الظّلمة، ثمّ يقوم بإطفاء هذا النّور الّذي فيه؟! إنّ مِثلَ هذا التّصرف هو ضدّ الطبيعة البشريّة، ضدّ طبيعة النُّور. بمعنى آخر، إنّ كلمة الله هي بِطَبيعتِها خلّاقة ومُخَلِّصة ومُحييةٌ وديّانةٌ، وبالتّالي، لا يجوز للإنسان المؤمِن أن يتصرَّف بطريقةٍ يلغي فيها كلمة الله، فيتصرَّف وكأنَّ كلمة الله غير موجودة وغير محيية وغير مُخلِّصة وغير ديّانة. فَبِتلك الطريقة، يقوم الإنسان بإلغاء وجود الله في محيطه. هذا هو فِكر الدَّينونة: كيف تتفاعل مع كلمة الله؟
– النّص الإنجيليّ: (مر 4: 24-25)
وَقَالَ لَهُمُ: “انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا الـمَثل، تَظهر بوضوح صورة الدَّينونة، وصورة الخلاص، كما تَظهر ضرورة أهميّة السَّماع لكلمة الله وضرورة التَّفاعل مع الكلمة المزروعة في هذا العالَم. إنّ هاتين الصُّورَتَين متلازِمَتان بشكلٍ دائم. إنّ ما يَهمُّ القدِّيس مرقس إظهاره من خلال طرحِه لهذه الأمثلة بهذا الشَّكل، هو أهميّة إيصال كلمة الله الـمُخلِّصة إلى جميع النّاس، مِن دون استثناء: اليهود والأُمم، وإلى كلِّ ذي جسدٍ على هذه الأرض. ويُضيف الربُّ يسوع إلى هذه الأمثلة الثلاثة، مثلاً عن الملكوت قائلاً:
– النّص الإنجيليّ: (مر 4: 26-29)
وَقالَ: “هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلًا نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلًا، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ”.
شرح النّص الإنجيليّ:
هنا، يُكلِّمنا الربُّ يسوع على الدَّينونة: إذ يُعطينا صورةً عن الزَّرع وعن الحصاد، حيث ينمو القمح من دون أيِّ جهدٍ. هذا هو عمل الله، فَهو ينمِّي الزَّرع من دون مَجهودٍ أو تَعبٍ من الإنسان. إنّ الله هو الأساس، وما على الإنسان إلّا أن يقوم بمساعدة الله من خلال رَمي البِذار في الحقل، أي في هذا العالَم. إنَّ دينونة الإنسان ستَكون انطلاقًا مِن قبولِه أو رَفضِه لهذا الأساس الّذي هو الله.
– النّص الإنجيليّ: (مر 4: 30-41)
“وَقَالَ: بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ؟ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا». وَبِأَمْثَال كَثِيرَةٍ مِثْلِ هذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا، وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ» فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضًا سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «اسْكُتْ! اِبْكَمْ!». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لا إِيمَانَ لَكُمْ؟» فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إذًا، ها هو الربُّ يسوع يُعطينا مَثلاً عن حبّة الخردل الّتي هي من أصغر الحبوب، ولكنّ شجرتها هي من أكبر الأشجار، وفيها تستظِّل الطّيور. وبالتّالي، ما أراد الربُّ قوله من خلال هذا الـمَثل، هو أنّه على المؤمن ألا يستهين بِصِغَره أو بمهاراته أو مواهبه الصّغيرة الّتي أعطاه إيّاها الله، لأنّه حين يستهين بما أعطاه إيّاه الله، يَقطع الطريق على كلمة الله فيمنعها من الوصول إلى الآخَرين من خلاله. إذًا، نحن في هذا الإصحاح، في حالة دينونة، إذ نتكلَّم على الإنجيل كبشارة سارّة علينا إيصالها إلى جميع النّاس، فتكون تلك الكلمة الّـتي سيسمعونها منّا فُرصَتَهم الأخيرة للتَّوبة.
ملاحظة: دُوِّنَ الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.