تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“إنجيل القدّيس مرقس الرّسول – الإصحاح الثاني” 

– النّص الإنجيليّ: (مر 2: 1-12)

“ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَناحومَ أيضًا بَعدَ أيّامٍ، فَسُمِعَ أنّهُ في بَيْتٍ. ولِلوَقتِ اجتَمَع كَثيرون حتّى لَم يَعُدْ يَسَعُ ولا ما حَول البابِ. فَكانَ يُخاطِبُهم بِالكَلِمة. وجاءوا إلَيهِ مُقَدِّمِين مَفلوجًا يَحمِلُه أربَعةٌ. وإذ لَم يَقدِروا أن يَقتَرِبوا إلَيهِ مِن أجلِ الجَمعِ، كَشَفوا السَّقفَ حَيثُ كانَ. وبَعدَ ما نَقَبوهُ دَلَّوا السَّريرَ الَّذي كانَ المَفلوجُ مُضطَجِعًا عَلَيه. فَلَمّا رأى يَسوعُ إيمانَهُم، قالَ لِلمَفلوجِ: “يا بُنَيَّ، مَغفورةٌ لكَ خَطاياكَ”. وكانَ قَومٌ مِنَ الكَتَبةِ هُناكَ جالِسِين يُفكِّرونَ في قُلوبِهم: “لِماذا يَتَكلَّمُ هذا هكَذا بِتَجاديفَ؟ مَن يَقدِرُ أن يَغفِرَ خطايا إلّا الله وَحدَهُ؟ “فَلِلوَقتِ شَعَرَ يَسوع بِرُوحِه أنَّهُم يُفكِّرون هكَذا في أنفُسِهم، فَقالَ لَهُمْ: “لِماذا تُفكِّرونَ بِهذا في قُلوبكُم؟ أيُّما أيسَرُ، أن يُقالَ لِلمَفلوجِ: مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ، أَم أن يُقالَ: قُم واحْمِل سَريرَكَ وَامْشِ؟ وَلكِن لِكَي تَعلَموا أنَّ لابْنِ الإنسان سُلطانًا على الأرض أن يَغفِرَ الخطايا”. قالَ لِلمَفلوجِ: “لكَ أقولُ: قُم وَاحْمِلْ سَريرَكَ واذْهَبْ إلى بَيتِكَ!”. فَقامَ لِلوَقتِ وحَمَلَ السَّريرَ وخَرَجَ قُدّام الكُلِّ، حتَّى بُهِتَ الجَميعُ ومَجَّدوا الله قائلِينَ: “ما رأيْنا مِثلَ هذا قَطّ!”.

شرح النّص الإنجيليّ:

سأتوقّف عند هذه القصّة، قصّة شفاء المفلوج، لأنّه مِن المهمّ جدًّا التركيز عليها كي نتمكَّن من رؤية مرمى الإنجيليّ مرقس مِن طرح الإنجيل.

إخوتي، في هذا المقطع، يقول لنا الإنجيليّ مرقس “سُمِعَ أنّه في بيتٍ”. في الترجمة الأصليّة لهذا النّص، نقرأ عبارة “سُمِع أنّه في البيت”، مع “أل” التّعريف، وكأنّ هذا البيت يجتمع فيه يسوع دائمًا مع تلاميذه؛ وفي بعض الترجمات، نجد عبارة “سُمِع أنّه في بيته”، ويقول البعض إنّ هذا البيت هو بيت بطرس، ولكن ما مِن تأكيداتٍ على هذا الموضوع.

إنّ صراع بولس الأساسيّ مع اليهود، وبالتّالي الإنجيل كلّه بَعد بولس، هو على أنّ الخلاص هو للكُلّ: للأُمَم واليَهود على المستوى نفسه. فبالنِّسبة إلى بولس، إنّ اليهوديّ، يَعبُر إلى الخلاص عن طريق النّاموس الموسَويّ، أمّا الوثنيّ فإنّه غير مضطَّرٍ إلى الدّخول إلى اليهوديّة قَبل اعتناقه المسيحيّة. ولكن، بالنِّسبة إلى اليهود، على كلّ وثنيٍّ أن يُصبح يهوديًّا ثمّ مسيحيًّا لأنّ الوعد بالخلاص أُعطيَ لليهود، وبالتّالي كي ينال الإنسانُ وَعدَ الله، لا يستطيع أن يكون مِن خارج الشَّعب اليهوديّ. لم يتمكَّن بولس مِن قبول الفِكر اليهوديّ هذا، لأنّ هذا يعني أنّ صليب المسيح الخلاصيّ لم يكن كافيًا لحصول الإنسان على الخلاص.

إنّ قصّة المفلوج هنا هي قِصّة ذاك الإنسان الّذي لا يستطيع أن يتحرَّك، أي لا قُدرة له على التقدّم، وهو يرمز إلى الوثنيِّين الّذين لا قدرةَ لهم على التقدّم إلّا إذا آمنوا بالربّ. لذلك، قال لنا الإنجيليّ مرقس إنّ هذا المفلوج يحمله أربعةُ رجالٍ. إنّ الرَّقم “أربعة” يدلّ إلى جهات الأرض الأربعة، أي الأُمَم أي كلّ العالم. إذًا، الّذين يحملون المخلَّع هُم العالم الأُمَميّ؛ وهذا يعني أنّ العالَم الأُمَميّ أصبح في حالة استعدادٍ وقَبول لِعملِ الربّ الخلاصيّ فيهم. إنّ هؤلاء الأربعة لم يَمُرّوا بين الجموع أي بين اليهود، بل جاءوا عن طريق السَّقف، أي مِن فوق، أي أنّ هؤلاء جاؤوا مِن طريق مباشرٍ ووَصلوا أمام يسوع.

“فَلَمّا رأى يَسوعُ إيمانَهم، قالَ لِلمَفلوجِ: “يا بُنَيَّ، مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ”. وكانَ قَومٌ مِنَ الكَتَبةِ هُناكَ جالِسِينَ يُفكِّرون في قُلوبهِم: “لِماذَا يَتَكلَّمُ هذا هكَذا بِتَجاديفَ؟ مَن يَقدِر أن يَغفِرَ خطايا إلّا الله وَحدَهُ؟ “فَلِلوَقتِ شَعَرَ يَسوعُ بِرُوحه أنَّهم يُفكِّرون هكَذا في أَنفُسِهم، فَقالَ لَهُم: “لِماذا تُفكِّرون بِهذا في قُلوبكُم؟ أيُّما أيسَرُ، أن يُقالَ لِلمَفلوجِ: مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ، أَم أن يُقال: قُمْ واحْمِلْ سَريرَكَ وَامْشِ؟ وَلكِنْ لِكَي تَعلَموا أنَّ لابنِ الإنسانِ سُلطانًا على الأرضِ أن يَغفِرَ الخطايا. قالَ لِلمَفلوجِ: “لكَ أقولُ: قُم وَاحْمِلْ سَريرَكَ واذْهَبْ إلى بَيتِكَ!”. 

إنّ الكلام، هنا، هو على الإيمان لا على أعمال النّاموس، لأنّه بالإيمان ينال الإنسان الخلاص. قال الربُّ يسوع للمفلوج: “يا بُنَيَّ، مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ”، وهذا يعني أنّ كلّ ما كان يؤمِن به المفلوج، كلّ ما كان خاضعًا له، سيمحوه الربّ، عندما يأتي إليه المفلوج بإيمانٍ. هذا ما كان يُعلِّمه بولس وما كَتَبَه، أكان في رسالته إلى أهل رومية أو في رسالته إلى أهل غلاطية، وهذا أيضًا ما دوّنه الإنجيليِّيون الأربعة متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا. إنّ الإنجيليّ مرقس هو أوّل الإنجيليِّين الّذين كتَبوا إنجيلهم، وهو أوّل مَن ذَكَر هذه القصّة ليُشير إلى أنّ خلاص الله هو لليهود والأُمَم على حدٍّ سواء، مع الإشارة إلى أنَّ الوثنيِّين يَخلُصون فقط بإيمانهم بِيَسوع المسيح من دون الحاجة إلى الخضوع إلى النَّاموس اليهوديّ.

“وكانَ قَومٌ مِنَ الكَتَبَة هُناكَ جالِسِينَ يُفكِّرون في قُلوبهم: “لِماذا يَتكَلَّم هذا هكَذا بِتَجاديفَ؟”. إنّ هذا الكلام يُشير إلى اعتراض اليهود على أن يَصبح الوثنيِّيون مِن وَرثة الملكوت مِن دون المرور باليهوديّة، وخصوصًا أنّ اليهود يعتبرون أنّ لهم الأولويّة في الحصول على الخلاص، وأنّ كلّ مَن سيأتي بَعدهم، سيَكون في مرتبةٍ ثانيةٍ في الحصول على الخلاص. وللأسف، ما زِلنا نعيش في حياتنا هذا التفكير اليهوديّ إلى اليوم: وإليكم مِثالاً على ذلك: إذا كان إنسانٌ ملتزمٌ في جمعيّةٍ كنسيّةٍ لمدَّةٍ طويلةٍ مِن الزَّمن وقد تولّى مهمَّةً فيها، ثمّ أتى شخصٌ جديدٌ إلى هذه الجمعيّة والتزَم بها وكان نشيطًا وتَسَلّم مسؤوليّةً، لم يتمكَّن مَن أمضوا سنين طويلة في هذه الجمعيّة مِن الحصول عليها والنَّجاح فيها، فإنّ هذا سيؤدّي إلى اغتمام الملتَزِم القديم في هذه الجمعيّة. 

إنّ كلّ تلك الصّراعات الّتي يعيشها الإنسان في حياته اليوميّة تُشير إلى سيطرة العقليّة اليهوديّة على تفكيره إلى اليوم، وتشير أيضًا إلى أنّ فِكره الإنسانيّ لم يَعتَمِد بَعد بِفِكر المسيح. التجاديف تعني الكُفِر، والكُفِر هو أن يستعمل الإنسان صلاحيةً وسُلطانًا إلهيًّا. من بداية إنجيله، يسعى الإنجيليّ مرقس إلى إظهار قوّة الربّ وسُلطانِه. كان الربّ يسوع يُكلِّم الجموع كَمَن له سُلطانٌ، وكان سُلطانه يَظهر أيضًا بطاعة الأرواح النَّجسة له لأنَّها كانت تخرج مِن الّذين كان يشفيهم الربّ. إنّ اليهود قد رأوا في تصرّفات الربَّ يسوع تجديفًا وكُفرًا، إذ قالوا: “مَن يَقدرُ أن يَغفِرَ خطايا إلّا الله وَحدَهُ؟”، وبالتّالي بمغفرته الخطايا، أظهَر الربّ سُلطانَه الإلهيّ.

“فَلِلوَقتِ شَعَرَ يَسوعُ بِرُوحِه أنَّهم يُفكِّرون هكَذا في أَنفُسِهم، فَقالَ لَهُم: “لِماذا تُفكِّرون بِهذا في قُلوبِكم؟ أيُّما أيسَرُ، أن يُقالَ لِلمَفلوجِ: مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ، أَمْ أن يُقال: قُمْ وَاحْمِلْ سَريرَكَ وَامْشِ؟ ولكِنْ لِكَي تَعلَموا أنَّ لِابْنِ الإنسانِ سُلطانًا على الأرض أن يَغفِرَ الخطايا”. قالَ لِلمَفلوجِ: “لكَ أقولُ: قُم وَاحْمِلْ سَريرَكَ واذْهَبْ إلى بَيتِكَ!”.

إنّ الأسهل هو أن يُقال للمفلوج: “قُم وامشِ”، ولكنّ الأصعب هو أن يَقول الربّ للمفلوج “مغفورةٌ لكَ خطاياك”. من خلال هذه العبارة الأخيرة، يَظهَر سُلطانُ الربّ الإلهيّ. أن يقوم الإنسان بأعجوبةٍ ما، فهذا يُشير إلى أنّ هذا الإنسان لديه قُدرةٌ مِن القُدرات الّتي أعطاه إيّاها الله، وفي تلك الأيّام كان العديد من النّاس يمتلكون قُدرات تخوِّلهم القيام بالأعاجيب.  

“قالَ لِلمَفلوجِ: “لكَ أقول: قُمْ وَاحْمِلْ سَريرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيتِك!. فَقام لِلوَقتِ وحَمَلَ السَّريرَ وخَرَج قُدّامَ الكُلِّ، حتّى بُهِتَ الجميعُ ومَجَّدوا الله قائلِين: “ما رأيْنا مِثلَ هذا قَطُّ!”. 

إنّ عبارة “قُم” هي عبارةٌ مهمّةٌ جدًّا ومستَعملةٌ بِكَثرةٍ في إنجيل مرقس. إنّ الوثنيّ، أي المفلوج، قد خَلُصَ أمام كلِّ الأعيُن اليهوديّة حتّى “بُهِتَ الجميع ومجدَّوا الله”. غير أنّ اليهود، الّذين بُهِتوا من أعمال الربّ، هُم أنفسهم طالبوا بِصَلبه قائلِين: “اصلِبه! اصلبه!”. نلاحظ أنّ اليهود هُم دائمو التعجّب أمام هذا السّر الّذي يحمله الربّ يسوع. إنّ هذا الحدث، حادثة شفاء المفلوج، يُظهر قدرةَ الربّ وسُلطانه. إنّ الخلاف بين يسوع والفِكر اليهوديّ بدأ بالظهور من خلال الكتَبَة.

– النّص الإنجيليّ: (مر 2: 13-17)

“ثُمَّ خَرجَ أيضًا إلى البَحرِ. وأتى إلَيهِ كُلُّ الجَمعِ فَعلَّمَهم. وَفِيما هو مُجتازٌ رأى لاوِي بْنَ حَلفى جالِسًا عِند مَكانِ الجِباية، فَقالَ له: “اتبَعني”. فَقامَ وتَبِعَهُ. وفِيما هو مُتَّكِئٌ في بَيتِه كانَ كَثيرون مِن العَشّارينَ والخُطاةِ يَتَّكِئُون مع يسوع وتَلامِيذه، لأنَّهُم كانوا كَثيرين وتَبِعوه. وأَمّا الكَتَبةُ والفَرِّيسيُّون فَلَمّا رأوهُ يأكُل مع العَشّارينَ والخُطاةِ، قالوا لِتَلاميذه: “ما بالُهُ يأكُل ويَشرَبُ مع العَشّارِين والخُطاةِ؟” فَلَمّا سَمِعَ يَسوعُ قال لَهُمْ: “لا يَحتاجُ الأصِحّاءُ إلى طَبيبٍ بل المَرضى. لَم آتِ لأدعُوَ أبرارًا بل خُطاةً إلى التَّوبةِ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في هذا المقطع الإنجيليّ، استعمل الإنجيليّ مرقس عبارة “فعلَّمهم”؛ أمّا في قصّة المفلوج فقَدْ استخدم عبارة “كان يُخاطبهم بالكلمة”، وهذا يعني أنّ الربَّ يسوع كان يخاطب الجموع بِكَلِمة الإنجيل، أي أنّه كان يُعطيهم التَّعليم الإلهيّ، وهنا يَظهر سُلطان الربّ من خلال التَّعليم. ونلاحظ هنا، في هذا المقطع، ظهور الصّراع بين يسوع واليهود وتكراره في كلّ حدثٍ. إنّ اليهود قد اعترضوا على تَناوُلِ الربّ يسوع الطَّعام مع العشّارين والخطأة، لأنّه، بالنِّسبة إليهم، كلُّ إنسانٍ غير يهوديّ هو نَجِسٌ، وبالتّالي لا أملَ له بالخلاص. في هذا النَّص، يُخبِرنا الإنجيليّ مرقس أنّ الربَّ يسوع قد دخل إلى بيوتِ الّذين لا أملَ لهم بالخلاص بحسب التفكير اليهوديّ، وأعطاهم الخلاص، بل وأكثر من ذلك اختار مِن بَينِهم لاوِيًّا. 

إنّ عبارة “لاويًّا” تعني خادمًا للهيكل، ممّا يعني أنّ هذا الإنسان الّذي اختاره الربّ هو يهوديّ، وطَلَب إلبه أن يتبعه. يقول البعض إنّ اللاويّ الّذي اختاره الربّ هو متّى الإنجيليّ، غير أنّ الإنجيليّ مرقس لا يؤكِّد ذلك في إنجيله. إنّ الإتِّكاء مع الربّ يعني أنّ هؤلاء، أي العشّارين والخطأة، قد أخَذوا أماكنَ لهم في هذا البيت وجلسوا مع يسوع. وبالتّالي، هذا يعني أنّ الوثنيّ أصبح له مكانًا إلى جانب يسوع مَتى قَبِلَ الوثنيُّ الربَّ. أمّا الكتبة والفرِّيسيّون، فلم يَقبلوا الربّ، لأنّ قبولهم له سيُسبِّب لهم مشاكل، إذ سيفقدون سلطتَهم على الشَّعب. إنّ كلَّ مَن لديه سَقَمٌ داخليّ أو خارجيّ، هو مدعوٌّ للخلاص الّذي يمنحه الربّ يسوع للمؤمِنِين به.

– النّص الإنجيليّ: (مر 2: 18-22)

“وكان تَلاميذُ يوحَنّا والفَرّيسِيِّين يَصومونَ، فَجاءوا وقالوا لَهُ: “لِماذا يَصومُ تَلاميذُ يوحنَّا والفَرّيسِيِّين، وأَمّا تَلامِيذُكَ فَلا يَصومون؟” فَقال لَهُم يَسوع: “هَل يَستطيعُ بَنو العُرسِ أن يَصوموا والعَريسُ مَعهُم؟ ما دام العَريسُ مَعهم لا يَستطيعون أن يَصوموا. وَلكِن سَتأتي أيّامٌ حِين يُرفَع العَريسُ عَنهُم، فَحينَئذٍ يَصومون في تِلكَ الأيّام. لَيس أحدٌ يَخيطُ رُقعَةً مِن قِطعةٍ جديدةٍ على ثَوبٍ عَتيق، وإلّا فَالمِلءُ الجَديدُ يأخُذ مِن العَتيق فَيَصيرُ الخَرقُ أَردَأ. ولَيس أحدٌ يَجعلُ خَمرًا جديدةً في زِقاق عَتيقةٍ، لِئَلّا تَشُقَّ الخَمرُ الجديدةُ الزِّقاقَ، فَالخَمرُ تَنصَبُّ والزِّقاقُ تَتلَفُ. بل يَجعلونَ خَمرًا جديدةً في زِقاق جديدةٍ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

ها هو الشِّجار بين اليهود والربّ يسوع يتكرّر مرّةً أُخرى، وهذا هو الصّراع نفسه الّذي تكرّر فيما بعد، بين بولس الرَّسول واليهود، عندما كان يُبشّر. مِن خلال هذا الكلام، أراد الربّ يسوع أن يقول لليهود إنّه لديهم ناموسَهم، ولكنْ لا يمكنهم إرغام أحدٍ مِن المؤمِنِين بالربّ الذين هُم خارج النّاموس، على اعتناق اليهوديّة للحصول على الخلاص بالربّ يسوع. فالنّاموس اليهوديّ، في الخبرة والواقع، لم يتمكّن من إعطاء الخلاص لليهود، ليس لأنّ النّاموس غيرُ قادرٍ على ذلك بل لأنّ اليهود، كما قال بولس الرَّسول أيضًا، لم يتمكّنوا من طاعة النّاموس وتنفيذ كلّ ما جاء فيه، ممّا جَعَل النّاموس يبدو وكأنّه غيرُ قادرٍ على إعطاء الخلاص لليهود. وبالتّالي، إذا كان النّاموس لم يتمكّن من تخليص اليهود أنفسهم، كيف له أن يُخلِّص غير اليهود، أي الوثنيِّين؟ لهذا، لـمّا جاء مِلء الزَّمان، أرسَل الله ابنَه، كما أخبرنا بولس الرَّسول، وخلَّص البشريّة بالإيمان به.

– النّص الإنجيليّ: (مر 2: 23-28)

“واجتازَ في السَّبتِ بَين الزُّروع، فَابتَدأ تَلاميذه يَقطِفونَ السَّنابل وَهُمْ سائرونَ. فَقالَ لَهُ الفَرّيسيُّونَ: “انظُرْ! لِماذا يَفعلونَ في السَّبتِ ما لا يَحِلُّ؟” فَقالَ لَهُم: “أَما قَرأتُم قَطُّ ما فَعَلهُ داود حينَ احتاجَ وجاعَ هو والَّذِينَ مَعَهُ؟ كَيف دَخَلَ بَيتَ الله في أيّام أبِيَأثار رئيس الكَهَنةِ، وأَكَلَ خُبزَ التَّقدِمَة الّذي لا يَحِلّ أكلُهُ إلّا لِلكَهَنة، وأعطى الّذِين كانوا مَعهُ أيضًا”. ثُمَّ قال لَهُم: “السَّبتُ إنَّما جُعِلَ لأجلِ الإنسانِ، لا الإنسانُ لأجل السَّبتِ. إذًا ابْنُ الإنسانِ هو رَبُّ السَّبتِ أيضًا”.

شرح النّص الإنجيليّ:

إنّ يوم السّبت هو يوم الفُرصَة، يوم العطلة، يوم عدم الحَرَكة، عند اليهود. ونلاحظ في هذا الكلام الّذي نَقَله إلينا الإنجيليّ مرقس وكأنّ اليهود، وخصوصًا الفرِّيسيّين، كانوا يراقبون الربّ يسوع ويلاحقونه. إنّ الفرِّيسيِّين ينتمون إلى حزبٍ يهوديّ متعصِّبٍ يهدف إلى تثبيت أرائه واعتقاداته، حتّى لو قادهم الأمر إلى إلغاء الآخرين. بحسب التفكير اليهوديّ، لا يجوز للربّ وتلاميذه السّير في الحقول والقِطاف والأكل ممّا قَطفوه، في يوم السّبت. يُخبرنا الإنجيليّ مرقس أنّ التّلاميذ قد قطفوا السّنابل وهذا يعني أنّ هذا الحدث تمّ في فصل الرَّبيع أو قَبْل وقت الِحصاد بِقَليل، أي صَوب نهاية فصل الرّبيع. في جوابه هذا لليهود، ذكَّرهم الربّ يسوع بما فَعلَه النبيّ داود الّذي أكَلَ ما لا يجوز أكله، أي خُبز التّقدمة، عندما جاع. بمعنى آخر، أراد الربّ يسوع أن يُخبر هؤلاء اليَهود أنّ الإنسانيّة هي أهمّ من القانون، وأنّ الإنسان هو ربّ السّبت وليس العكس. إنّ كلام الربّ يسوع هنا قد يبدو لنا كلامًا عاديًّا، غير أنّه ليس كذَلِك في الحقيقة. إنّ مِثْل هذا الكلام يُسبِّب أزمةً لليهوديّ لأنّه يَقضي على كلّ تقاليده اليهوديّة وعاداته. فالمسؤولون اليهود قد تسلَّطوا على شعبهم وسَيطروا عليه، من خلال التشديد عليهم على ضرورة تقديس يوم السّبت والالتزام به. وهؤلاء المسؤولون أنفسهم حاولوا منعَ يسوع من القيام بالشِّفاءات خصوصًا يوم السّبت؛ لا بل أكثر من ذَلِك، كانوا يحاولون مَنعَ النّاس من المجيء إلى الربّ يسوع في يوم السّبت لِطلَبِ الشِّفاء. في العهد القديم لم يكن يوم السّبت، يومًا لعدم العَمَل، بل كان الهدف منه تخصيص هذا اليوم للربّ، أي للصّلاة. وبالتّالي بما أنّ هذا اليوم هو يومٌ مخصَّصٌ للربّ، على المؤمِن ألّا يَعمل فيه. وبالتّالي، على الإنسان ألّا يُحَوِّل عدم العمل في هذا اليوم إلى قانونٍ أو ناموس، واعتباره خطيئةً على الإنسان الّذي لا يلتزم به.

هنا نطرح السّؤال: ألا نقوم نحن أيضًا بما قام به اليهود في حياتنا اليوميّة؟ ها إنّ الصّوم على الأبواب! وهنا نتذكّر تصرّفاتنا في هذا الزّمن المقدَّس إذ يقوم البعض منّا بانتظار ساعةِ الإفطار كي يتناول الطّعام فورَ إعلان ساعة الإفطار، وآخَرون يُشدِّدون على نوعيّة الطّعام الّذي يتاوَلونه في هذه الفترة فلا يتناولون ما فيه مشتقات الحليب أو اللّحوم، ويلجأون إلى غسل أيديهم متى لَمَست أيديهم طعامًا ممنوعًا تناوله في زمن الصّوم. كما يلجأ البعض إلى صُنع الحلويات الصِّياميّة للاستعاضة عن الحلويات الممنوع تناولها في هذا الزّمن، وذلك للمحافظة على النّاموس وشريعة الصّوم. إنّ كلّ ما نصنعه من حلويات في زمن الصّوم يدلّ على أنّ شهوتنا إلى الطّعام لا تزال منتعشةً ولكنّنا نسعى إلى تطبيق النّاموس في هذه الفترة الزمنيّة. 

إخوتي، إنَّ تصرّفاتنا هذه تدلّ على عيشِنا “الفِرّيسِيّة” إلى أقصى الحدود. إنّ الصّوم، بهذه الطريقة الّتي نعيشه فيها، تَحوَّلَ إلى صنمٍ، لأنَّ الإنسان صار يَعبد الصّوم. إنّ هذا النّص الإنجيليّ يُكلِّمنا على الفريسيِّين وعلى صراعهم مع الربّ يسوع. وأمام ما نعيشه، نطرح السّؤال: ألا يتجدّد صراع الفرِّيسيِّين مع الربّ معنا اليوم، على مستوياتٍ عدَّة، خصوصًا في ما يتعلّق بالصّلاة؟ في أثناء تواجدنا في الكنائس، يسعى البعض منّا إلى مراقبة حركات الآخَرين إذا كانوا يلتزمون بالجلوس والقيام في الأوقات المحدَّدة لذلك، غير آبِهين لما يعاني منه هؤلاء من تَعبٍ أو مَرضٍ، أو لأسبابٍ أخرى خاصّة بهم؛ وتكون نظراتنا إليهم بعيدةً كلّ البُعد عن الرَّحمة والحُبّ. وهنا أقول لكم إنّه علينا أن نسارع إلى إيجاد أعذارٍ لهم لعدم التزامهم بحركات الجلوس والوقوف. وهنا أطرح السّؤال عليكم: مَن الّذي وَضع قانون الجلوس والوقوف في الكنيسة؟ 

إنّ الجلوس والوقوف في الكنيسة هو مجرّد تعابيرٍ يُعبِّر فيها المؤمِن عن علاقته بالله: فالبعض يرتاح بالتكلّم مع الله وقوفًا وآخرون يرتاحون بالتّكلم معه جلوسًا. إخوتي، نحن مدعوون اليوم إلى نزع تلك الأحمال والأثقال عن أكتافنا، وعدم تحميلها للآخَرين، فتلك الأحمال لا علاقة للآخرين بها. فلنتذكّر هنا إخوتي كلام الربّ: “أريدُ رحمةً لا ذبيحة”(متى 12: 7). إنّ هذه الكلمات لا تزال إلى اليوم محطّ جَدَلٍ بيننا وبين يسوع. وللأسف، نحن نَنسُب إلى يسوع ما نحن اخترعناه. إنّ الربّ يسوع قال لليهود إنّهم يهتّمون بالمحافظة على تقاليد آبائهم أكثر من محافظتهم على كلمة الله. للأسف، نحن نقع في الكثير من الأحيان، في فخّ التقاليد والعادات والقوانين الفارغة من معناها. إخوتي، أنا لستُ ضدَّ القانون ولكنِّي أنتقد القانون حين يُمارَس وهو فارغٌ من معناه. 

وإليكم مِثالٌ توضيحيٌّ عمّا أقوله: ماذا يعني أن يقوم مؤمِنٌ في مناسبةٍ دينيّةٍ معيّنةٍ بارتداء ثوبِ مريمَ العذراء أو قدِّيسٍ مُعيَّنٍ كمار شربل مثلاً؟ أنا لستُ ضدَّ لباس الثوب؛ ولكن ما أريد قوله لكم هو إنّه حين يُصبح ثوب القدِّيس مجرّد لباسٍ دون مضمون، يكون المؤمِن قد دَخل من جديدٍ في اليهوديّة، أي أنّه عاد إلى ممارسة الطّقوس الفارغة من مضمونها. إخوتي، حين يرتدي أحدُنا ثوبَ العذراءِ مريم أو ثوبَ القدِّيس شربل، لمدّةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ، فهذا يعني أنّ المؤمِن يريد اتِّخاذ العذراء أو القدِّيس شربل شفيعًا له ومِثالاً، وبالتّالي على المؤمِن أن يسعى في هذه الفترة الزمنيّة إلى اتِّخاذ سلوكٍ ونَمطِ حياةٍ يُرضي الله كما كان يفعل هذا القدِّيس أو تلك القدِّيسة. إذًا، هناك حالةٌ من التوبة يُنشِدها المؤمِن عند ارتدائه هذا الثَّوب، وهو أن يعيش في حالةٍ مِن التَّغيير في مساره قبل ارتدائه الثوب عمّا بعده. 

إنّ هذه الأمثلة الّتي أُعطيكم إيّاها تُشير إلى أنّ اليهوديّة لم تَختَفِ من عقول النّاس، لذا عادت إلى الوجود مِن خلال دولة إسرائيل. فمَن الّذي أنشأ الدولة اليهوديّة؟ اليهود؟ أقول لكم لا، بل الغَرب أعاد إنشاءها مُستَنِدًا إلى حُججٍ دينيّةٍ فارغة من معناها، سنتكلّم عليها بالتَّفصيل في وقتٍ لاحقٍ، في حديثٍ مستندٍ إلى الكِتاب المقدّس، يُفيد أنّ الله لم يَعِد اليهود بإقامة دولةٍ يهوديّة لهم. إنّ يهودًا كثيرين يعترفون بأنّ الربّ لم يَعِدهم بإقامة دولةٍ أرضيّةٍ لهم، ومِن بين هؤلاء جمعيّة “حرّاس الهيكل”. أمّا الصَّهاينة أي اليهود ذات التّفكير السياسيّ فَقَد زرعوا في عقول النّاس أنّ الربّ قد أعطاهم هذه الدّولة وقد وقَع بعض المسيحيّين في هذا الفخّ، والدّليل هو وجود جمعيّة تُدعى “الجمعيّة الصّهيونيّة المسيحيّة”، ومَركز هذه الجمعيّة في القُدس، أي في أورشليم. ويقوم هؤلاء بتسخير الكتاب المقدَّس لأفكارِهم الصهيونيّة. إنّ كلّ الأحزاب التَّعصُبيّة، الأُصوليّة، السَّلَفيّة، ومنها الصَّهيونيّة، تستعمل الدِّين لأغراضٍ خاصّة بها للسّيطرة على عقول النّاس.      

“إنجيل القدّيس مرقس الرّسول – الإصحاح الثالث” 

النّص الإنجيليّ: (مر 3: 1-35)

“ثُمَّ دَخَلَ أيضًا إلى المَجمَع، وكان هُناكَ رَجُلٌ يَدُهُ يابِسةٌ. فَصاروا يُراقِبونَه: هَل يَشفيه في السَّبتِ؟ لِكَي يَشتَكوا عَلَيه.  فَقال لِلرَّجُل الّذي له اليَدُ اليابِسة: “قُمْ في الوَسط!” ثُمّ قالَ لَهُم: “هَل يَحِلُّ في السَّبتِ فِعلُ الخَير أو فِعلُ الشَّرِّ؟ تَخليصُ نَفسٍ أو قَتلٌ؟”. فَسَكَتوا. فَنَظَرَ حَولَهُ إلَيهم بِغَضَبٍ، حَزينًا على غِلاظَةِ قُلوبِهم، وقالَ لِلرَّجُلِ: “مُدَّ يَدَكَ”. فَمَدَّها، فَعادَتْ يَدُهُ صَحيحةً كالأُخرى. فَخَرجَ الفَرِّيسيُّون لِلوَقتِ مع الهِيرودُسِيِّين وتَشاوَروا عَلَيه لِكَي يُهلِكوه. فَانصَرفَ يَسوعُ مع تلاميذِه إلى البَحرِ، وتَبِعَهُ جَمعٌ كَثيرٌ مِنَ الجَليلِ ومِنَ اليَهوديَّة ومِنْ أُورشَليم ومِنْ أدُومِيَّة وَمِن عَبرِ الأُردُنِّ. والَّذِين حَولَ صُور وَصَيدا، جَمعٌ كَثيرٌ، إذْ سَمِعوا كَم صَنَع أتَوا إلَيهِ. فَقالَ لِتَلاميذِه أن تُلازِمَه سَفينةٌ صَغيرةٌ لِسَببِ الجَمعِ، كَي لا يَزحَموهُ، لأنّهُ كانَ قَد شَفى كَثيرينَ، حتّى وَقَع علَيه لِيَلمِسهُ كُلُّ مَن فِيه داءٌ. والأرواحُ النَّجِسَةُ حِينَما نَظَرَتهُ خَرَّت له وصَرخَتْ قائلةً: “إنّكَ أنتَ ابْنُ اللهِ!”. وأَوصاهُم كَثيرًا أن لا يُظهِرُوه. ثُمّ صَعِد إلى الجَبلِ ودَعا الَّذِين أرادَهُم فَذَهَبوا إلَيه. وأقامَ اثْنَي عَشَرَ لِيَكُونوا مَعه، وَلِيُرسِلَهُم لِيَكرِزوا، ويَكونَ لَهُم سُلطانٌ على شِفاء الأمراضِ وإخراجِ الشَّياطينِ. وجَعَلَ لِسِمعانَ اسْمَ بُطرُس. ويَعقوبَ بْنَ زَبدَى ويُوحَنّا أخا يَعقوبَ، وجَعلَ لَهُما اسْمَ بُوانَرجِسَ أي ابنَي الرَّعدِ. وأندَراوسَ، وفِيلُبُّس، وبَرثولَماوسَ، ومَتَّى، وتُوما، ويَعقوبَ بْنَ حَلْفى، وتَدّاوُسَ، وسِمعانَ القانَوِيَّ، ويَهوذا الإسخَريُوطِيَّ الّذي أَسلَمَهُ. ثُمّ أتَوا إلى بَيتٍ. فَاجتَمعَ أيضًا جَمعٌ حتّى لَم يَقدِروا ولا على أَكْلِ خُبزٍ. ولَمّا سَمِعَ أقرِباؤُه خَرَجوا لِيُمسِكوهُ، لأنّهُم قالوا: “إنّهُ مُختَلٌ!”. 

وَأَمّا الكَتَبة الَّذِينَ نَزَلوا مِن أُورشَليمَ فَقالوا: “إنّ مَعَهُ بَعْلَ زَبول! وإنَّهُ بِرَئيسِ الشَّياطين يُخرِج الشَّياطين.” فَدَعاهُم وقالَ لَهُم بِأمثال: “كَيفَ يَقدِرُ شَيطانٌ أن يُخرِجَ شَيطانًا؟ وإنِ انقَسَمَتْ مَملَكةٌ على ذاتِها لا تَقدِر تِلكَ المَملَكَةُ أن تَثبُتَ. وإنِ انقَسَم بَيتٌ على ذاتِهِ لا يَقدِرُ ذلِكَ البَيتُ أن يَثبُتَ. وإنْ قام الشَّيطانُ على ذاتِهِ وانقَسَم لا يَقدِرُ أن يَثبُتَ، بل يَكُون له انقِضاءٌ. لا يَستَطيعُ أحدٌ أن يَدخُلَ بَيتَ قَويٍّ ويَنهَبَ أَمتِعَته، إن لَم يَربِطِ القَوِيَّ أوَّلًا، وحِينَئذٍ يَنهَبُ بَيتَهُ. الحَقّ أقولُ لَكُم: إنّ جَميع الخَطايا تُغفَر لِبَنِي البَشَرِ، والتَّجاديفَ الَّتي يُجدِّفونَها. ولكِنْ مَن جَدَّفَ على الرُّوحِ القدُسِ فَلَيْسَ له مَغفِرةٌ إلى الأبد، بل هو مُستَوجِبٌ دَينونةً أبَديَّة”. لأنَّهُم قالوا: “إنّ مَعَه رُوحًا نَجِسًا”. فَجاءَتْ حينَئذٍ إخوَتهُ وأُمُّه وَوَقَفوا خارِجًا وأرْسَلوا إلَيه يَدعونَهُ. وكانَ الجَمعُ جالِسًا حَولَهُ، فَقالوا له: “هُوَذا أُمُّكَ وإخوَتُكَ خارجًا يَطلُبونَك”. فَأجابَهم قائلًا: “مَن أُمِّي وإخوَتي؟” ثُمَّ نَظَر حَولَه إلى الجالِسِين وقال: “ها أُمِّي وإخوَتي، لأنّ مَن يَصنَع مَشيئةَ الله هو أخي وأُختي وأُمِّي”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في هذا الإصحاح، الإصحاح الثَّالث من إنجيل مرقس، نلاحظ أنّ اليهود قد بدأوا بالعمل على وَضعِ خطّةٍ لِقَتل يسوع، وها قد بدأت تلك الخُطّة بالظّهور، بالحديث عن يوم السّبت. إنّ يوم السّبت هو رمز التّوراة. وبالتّالي التهمة الّتي سيتمّ إلصاقها بِيَسوع هي أنّه يخالف التوراة، في حين أنّ الهدف من مجيء يسوع المسيح هو تحقيق كلمة الله الموجودة في التّوراة. فبالنِّسبة إلى هؤلاء اليهود الفرِّيسين، يسوع يخالف التوراة، أي أنّه يخالف كلمة الله، وهذا يُعتَبر بالنِّسبة إليهم تجديفًا. أمّا يسوع، فكان يُحقِّق كلمة الله الموجودة في التّوراة وبالتّالي كان يضرِب بتصرّفاته وكلماته كلّ الفكر الفِرِّيسيّ الّذي هو بَعيدٌ كلّ البُعد عن الكتاب المقدَّس، والّذي يَستَعمل الكتاب المقدَّس لأهدافٍ خاصةٍ به. لهذا السّبب، كان صراع الفِرِّيسيِّين مع الربّ يتمحور حول شفاء الربّ للمرضى الّذين كانوا يُقبِلون إليه في يوم السّبت طلبًا للشِّفاء. فبحسب التفكير اليهوديّ، لا يجوز للربّ أن يشفي المرضى في يوم السّبت، إذ لا يجوز لأيّ يهوديّ أن يقوم بأيّ عملٍ في يوم السّبت. إذًا، إنّ يوم السّبت هو أُمّ كلّ المشاكل عند اليهود. أمّا بالنِّسبة إلى يسوع، فالإنسان هو ربّ السّبت.

والآن سننتقل إلى قراءة قصّة شفاء أُخرى تمّت أيضًا في يوم السّبت. 

“ثُمَّ دَخَلَ أيضًا إلى المَجمَع، وكان هُناكَ رَجُلٌ يَدُهُ يابِسةٌ. فَصاروا يُراقِبونَه: هَل يَشفيه في السَّبتِ؟ لِكَي يَشتَكوا عَلَيه. فَقال لِلرَّجُل الّذي له اليَدُ اليابِسة: “قُمْ في الوَسط!” ثُمّ قالَ لَهُم: “هَل يَحِلُّ في السَّبتِ فِعلُ الخَير أو فِعلُ الشَّرِّ؟ تَخليصُ نَفسٍ أو قَتلٌ؟”. فَسَكَتوا. فَنَظَرَ حَولَهُ إلَيهم بِغَضَبٍ، حَزينًا على غِلاظَةِ قُلوبِهم، وقالَ لِلرَّجُلِ: “مُدَّ يَدَكَ”. فَمَدَّها، فَعادَتْ يَدُهُ صَحيحةً كالأُخرى. فَخَرجَ الفَرِّيسيُّون لِلوَقتِ مع الهِيرودُسِيِّين وتَشاوَروا عَلَيه لِكَي يُهلِكوه”. 

كان اليهود يقضون وقتهم بمراقبة يسوع ليَرَوا ما إذا كان سيقوم بأعجوبة شفاء في يوم السّبت، أم لا. إنّ اليهود لا يكترثون لشفاء هذا الرَّجل ذات اليَد اليابسَة، فَهُم لا يبالون بالرَّحمة الّتي يُغدِق الربّ بها على هذا الرَّجل المريض، بل ما يهمّهم هو الالتزام بالنّاموس، أي أنّهم يهتّمون للذبيحة لا للرّحمة، تلك الذبيحة الفارغة من معناها. إنّ الربّ بكلامه هذا الموجّه إلى اليهود، عَرَف كيف يُحرِجهم لذلك سَكتوا. إنّ عبارة “غلاظة قلوبهم” موجودة في سِفر إشعيا. حين قرّر الله توكيل إشعيا بالرِّسالة، أخَبَرَه بغلاظة قلوب الشَّعب. ابتداءً من هذا الإصحاح، الإصحاح الثالث، نلاحظ بداية المعركة والتَّخطيط لقتل يسوع. إنّ إنجيل مرقس هو مِن أسرع الأناجيل الّذي بادر فيها الإنجيليّ إلى إخبارنا عن البدء بالتحضير لقتل يسوع من الإصحاحات الأولى. 

في هذا الإصحاح، يُخبرنا الإنجيليّ مرقس أنّ الفرِّيسِيِّين والهيرودسيِّين قد تحالفوا معًا من أجل قتل يسوع، مع العِلم أنَّ هذين الحزبَين اليهوديّين مُتعارِضان، أي أنّ الواحد منهما يكرَه الآخر إلى أقصى الحدود. فالفرِّيسيّ ينظر إلى الهيرودسيّ وكأنَّه وثنيّ، لأنّ الهيرودسيِين لا يؤمنون بقيامة الأموات على عكس الفرِّيسِيِّين. إخوتي، إنّ المصيبة دائمًا تَجمَع بين الأعداء. في العالم كلِّه، يتمّ الجَمع بين مجموعَتين متخاصِمَتين من خلال خَلِق عدوٍّ مشتَركٍ لهما، فيتحالف المتخاصِمان على مقاتلة عدوّهم الـمُشترك. وهذا ما نعيشه في لبنان، إذ يجتمع المتخاصمون عند وقوع مصيبة تَضرّ بالفَريقَين المتخاصِمَين. وعند زوال هذه المصيبة، يعود المتخاصِمان إلى عداوتهما. فمِن دون وجود أعداء لليهود، ستَتَشتَّتُ الأُمَّة اليَهوديّة وتَزول. قُبَيل محاكمة يسوع، قال قيافا لرؤساء اليهود: “خيرٌ أن يموتَ واحدٌ عن الأُمَّة”(يو 11: 50)، وكأنَّه يدعوهم إلى جَعِل يسوع عدوًّا لهم مِن أجل بقاء الأُمَّة اليهوديّة. إذًا، كان اليهود الفريسيِّون والصدُّوقيّون، في أزمةٍ، لذا تحالفوا مع بعضهم البعض. 

“فَانصَرفَ يَسوعُ مع تلاميذِه إلى البَحرِ، وتَبِعَهُ جَمعٌ كَثيرٌ مِنَ الجَليلِ ومِنَ اليَهوديَّة ومِنْ أُورشَليم ومِنْ أدُومِيَّة وَمِن عَبرِ الأُردُنِّ. والَّذِين حَولَ صُور وَصَيدا، جَمعٌ كَثيرٌ، إذْ سَمِعوا كَم صَنَع أتَوا إلَيهِ”: 

في هذه الآية، يُعطي الإنجيليّ مرقس بعض التَّلميحات. إنّ منطقة الجليل ليست منطقةٌ صِرف يهوديّة، بل هي منطقة مختلطة، يعيش فيها اليهود وغير اليهود أيضًا. والنَّاصرة كانت تتبع لمنطقة الجليل، وهنا نتذكَّر قولَ الكِتاب: “أَمِنَ النَّاصِرة يخرج شيءٌ صالح”(يو 1: 46). إنّ المغزى مِن ذِكر الإنجيليّ مرقس لكلّ هذه المناطق هو التَّشديد على أنَّ الخلاص هو للجميع. 

“فَقالَ لِتَلاميذِه أن تُلازِمَه سَفينةٌ صَغيرةٌ لِسَببِ الجَمعِ، كَي لا يَزحَموهُ، لأنّهُ كانَ قَد شَفى كَثيرينَ، حتّى وَقَع علَيه لِيَلمِسهُ كُلُّ مَن فِيه داءٌ. والأرواحُ النَّجِسَةُ حِينَما نَظَرَتهُ خَرَّت له وصَرخَتْ قائلةً: “إنّكَ أنتَ ابْنُ اللهِ!”. وأَوصاهُم كَثيرًا أن لا يُظهِرُوه. ثُمّ صَعِد إلى الجَبلِ ودَعا الَّذِين أرادَهُم فَذَهَبوا إلَيه. وأقامَ اثْنَي عَشَرَ لِيَكُونوا مَعه، وَلِيُرسِلَهُم لِيَكرِزوا، ويَكونَ لَهُم سُلطانٌ على شِفاء الأمراضِ وإخراجِ الشَّياطينِ.”: 

إنّ عبارة “كلُّ مَن فيه داء”، تُشير إلى سُلطانِ يسوع وقدرته على شفاء جميع المرضى. إنّ الأرواح النَّجسّة قد اعتَرَفت أنّ يسوع هو ابن الله، في حين أنّ الصِّدوقيّين والفرِّيسيِّين تشاوروا وتحالفوا على وَضعِ خطّةٍ لقَتلِ يسوع. إنّ كلّ هذه الأمور هي علاماتٌ يُشير إليها الإنجيليّ مرقس في إنجيله للإشارة إلى العداوة الّتي أصبحت عند اليهود ضدَّ يسوع، الحاملَ كلمةَ الله. وبعد أن أظهر الإنجيليّ مرقس سُلطانَ الربّ وقدرتَه، ها هو الآن يُخبرنا عن اختياره لتلاميذه. 

إنّ عبارة “دعا الّذِين أرادهم” تعني أنّ الرّبّ هو الّذي اختار تلاميذه وليس العكس، وهذا ما يوضحه الربّ في عبارةٍ أُخرى في إنجيلٍ آخر، إذ يقول لتلاميذه:”لستُم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتُكم”(يو 15: 16). وبالتّالي، المبادرة تأتي دائمًا من الله، والله ينتظر جوابنا عن مبادرته تجاهنا. إذًا، الفضل يعود إلى مبادرة الله تجاهنا نحن البشر، لا لِجَوابِنا عنها. إنّ الربَّ قد اختار الاثني عشر رسولاً، وكأنّه بِذَلك يريد أن يقول لنا إنّه يُنشئ “إسرائيل الجديد”. ففي العهد القديم، كان هناك اثنَا عشر سِبطًا لإسرائيل، أمّا الآن فها هو الربّ يختار اثني عشر رسولاً، إنّه “الشَّعب الجديد لله”. إنّ الربَّ لديه سُلطانٌ من الله، وهو قادرٌ على إعطائه إلى الآخَرين. إنّ إعطاء السّلطان الإلهيّ إلى الآخَرين هو عملٌ لا يقوم به إلّا الله.

“وجَعَلَ لِسِمعانَ اسْمَ بُطرُس. ويَعقوبَ بْنَ زَبدَى ويُوحَنّا أخا يَعقوبَ، وجَعلَ لَهُما اسْمَ بُوانَرجِسَ أي ابنَي الرَّعدِ. وأندَراوسَ، وفِيلُبُّس، وبَرثولَماوسَ، ومَتَّى، وتُوما، ويَعقوبَ بْنَ حَلْفى، وتَدّاوُسَ، وسِمعانَ القانَوِيَّ، ويَهوذا الإسخَريُوطِيَّ الّذي أَسلَمَهُ”:

إنّ الربّ قد أعطى سِمعان اسم بُطرس، ومعنى هذا الاسم الجديد هو الصَّخر. وأعطى ليعقوب ويوحنّا اسم “بُوانَرجِسَ أي ابنَي الرَّعدِ”، وهذا الاسم دليلٌ على القوّة. في سلسلة أسماء الرُّسل، نلاحظ وجود أسماءٍ يهوديّةٍ وأُخرى يونانيّة. كان من المفترض أن تكون جميع الأسماء يهوديّةً، ولكن الخَلطَ من قِبَل الإنجيليّ مرقس في كتابة أسماء الرُّسل بعضها بحسب الترجمات اليونانيّة وبعضها الآخر بحسب الترجمات اليهوديّة هو للتّشديد على أنّ خلاص الربّ هو للجميع، لليهود وللأُمَم على حدٍّ سواء.   

“ثُمّ أتَوا إلى بَيتٍ. فَاجتَمعَ أيضًا جَمعٌ حتّى لَم يَقدِروا ولا على أَكْلِ خُبزٍ. ولَمّا سَمِعَ أقرِباؤُه خَرَجوا لِيُمسِكوهُ، لأنّهُم قالوا: “إنّهُ مُختَلٌ!”. وَأَمّا الكَتَبة الَّذِينَ نَزَلوا مِن أُورشَليمَ فَقالوا: “إنّ مَعَهُ بَعْلَ زَبول! وإنَّهُ بِرَئيسِ الشَّياطين يُخرِج الشَّياطين. “فَدَعاهُم وقالَ لَهُم بِأمثال: “كَيفَ يَقدِرُ شَيطانٌ أن يُخرِجَ شَيطانًا؟ وإنِ انقَسَمَتْ مَملَكةٌ على ذاتِها لا تَقدِر تِلكَ المَملَكَةُ أن تَثبُتَ. وإنِ انقَسَم بَيتٌ على ذاتِهِ لا يَقدِرُ ذلِكَ البَيتُ أن يَثبُتَ. وإنْ قام الشَّيطانُ على ذاتِهِ وانقَسَم لا يَقدِرُ أن يَثبُتَ، بل يَكُون له انقِضاءٌ. لا يَستَطيعُ أحدٌ أن يَدخُلَ بَيتَ قَويٍّ ويَنهَبَ أَمتِعَته، إن لَم يَربِطِ القَوِيَّ أوَّلًا، وحِينَئذٍ يَنهَبُ بَيتَهُ. الحَقّ أقولُ لَكُم: إنّ جَميع الخَطايا تُغفَر لِبَنِي البَشَرِ، والتَّجاديفَ الَّتي يُجدِّفونَها. ولكِنْ مَن جَدَّفَ على الرُّوحِ القدُسِ فَلَيْسَ له مَغفِرةٌ إلى الأبد، بل هو مُستَوجِبٌ دَينونةً أبَديَّة”. لأنَّهُم قالوا: “إنّ مَعَه رُوحًا نَجِسًا”: 

إنّ عبارة “أتوا إلى بيت” تعني إلى البيت الّذي كان يتمّ فيه اللِّقاء، أي بيت الاجتماع. وفي هذا النَّص الإنجيليّ، نرى مشهدًا آخر من الصِّراع بين اليهود والربّ يسوع: فاليهود قد اعتبروا أنّ الربَّ قد جدَّف وخَرَق النّاموس، لا بل أكثر من ذَلك ذَهبوا إلى حدِّ اعتباره “بَعل زَبول”، أي رئيس الشَّياطين. إنّ المقصود هنا بعبارة “الأقرباء” هو أبناء بيئته، فَهُم لم يؤمنوا به. لقد اتّهم الكَتبةُ يسوعَ بأنّه “بَعل زبول” إذ ما مِن سُلطان على الجنود إلّا مِن قائدهم. لذا، اعتبر اليهود أنّه بما أنّ ليسوع سُلطانٌ على الشّياطين، فهو إذًا رئيسُهم، وبالتّالي هُم أنكَروا أنَّ الله هو المسيطِر على كلّ شيءٍ وهو القادر على كلِّ شيء. مَن لا يرى في عَملِ يسوع بَصمةً إلهيّة، وتَدخُّلاً إلهيًّا وسُكنى الله فيه، مُعتَبرًا أنَّ عَملَ الربّ هو عملٌ شيطانيّ، وفيه رُوحٌ نَجِس، فإنّه يرتكب خطيئة لا تُغتَفر. إذًا، اليهود لا يُجدِّفون فقط على الرُّوح بل يَرفِضون بكلِّ وَعيِهم عَمَلَ المسيح الخلاصيّ. مَن يرفض عَملَ الله، هو إنسانٌ لا ينتظر مجيء المسيح لِيَكون مُخلِّصًا له، وبالتّالي هو يَبحثُ عن قائدٍ يمنحُه سُلطانًا ليتسلَّط على الآخَرين المحيطين به.يقول الكِتاب: “سبِّحوا الله يا كُلَّ الشَّعوب، وامدحوه يا كلَّ الأممَ”(مز 117: 1): بالنِّسبة إلى اليَهود، لا يحقُّ لأحدٍ غيرهم أن يُسبِّح الله، فَهُم يعتقدون أنّهم الوحيدون الّذين يملكون هذا الحقّ، وبالتّالي، هذه الآية الكِتابيّة بالنِّسبة إلى اليهود، تعني أنّ الآخَرين يستطيعون تسبيح الله من خلال تسبيح اليهود للربّ، متى كان هؤلاء تحت سيطرة اليهود. إذًا، نحن في وَضعٍ الصّراع فيه محتَدِمٍ إلى حدِّ أنّه ليس اليهود فقط كِفِكرٍ فرِّيسيٍّ يحاربون الربّ، إنّما أيضًا أبناء مِلَّتِه، أقرباؤه، أبناء جِلدِه، لأنّهم لم يَقبلوا به. إذًا، الّذي لا يَقبل الربّ يسوع، لا قُربةَ بينه وبين يسوع، مهما كان قريبًا منه؛ والّذي يَقبَل الربّ يسوع، صار قريبًا مهما كان بَعيدًا.

“فَجاءَتْ حينَئذٍ إخوَتهُ وأُمُّه وَوَقَفوا خارِجًا وأرْسَلوا إلَيه يَدعونَهُ. وكانَ الجَمعُ جالِسًا حَولَهُ، فَقالوا له: “هُوَذا أُمُّكَ وإخوَتُكَ خارجًا يَطلُبونَك”. فَأجابَهم قائلًا: “مَن أُمِّي وإخوَتي؟” ثُمَّ نَظَر حَولَه إلى الجالِسِين وقال: “ها أُمِّي وإخوَتي، لأنّ مَن يَصنَع مَشيئةَ الله هو أخي وأُختي وأُمِّي”: 

كما يبدو، في هذه الآيات، إنّ أقرباء يسوع قد مارسوا ضَغطًا على مريم أمِّه، كي تأتي إلى ابنها وتأخذه إلى البيت، لأنّه في اعتقادهم، قد أصبح الربّ مجنونًا، وتلك كانت محاولة منهم لتوقيف عَمَل الربّ. هنا، يقول أحد الآباء القدِّيسِين، إنّه إذا أخطأتْ العذراء في تصرُّفها، تكون قد أخطأتْ حين قبِلَتْ أن تأتي مع هذه المجموعة إلى يسوع. إنّ العذراء مريم مستثناةٌ من هذا الحديث الّذي قاله الربّ يسوع، لأنّها صنَعَتْ مشيئته وما زالت تَصنَعُها. يقول لنا الربّ في تعليمه هنا، أنّ لا قريبَ له في اللَّحم والدَّم، إذ إنّ قريبَه هو كلُّ مَن يصنَع مشيئة الله فقط. إنّ مريم العذراء قد صنَعت مشيئة الله وهي الأُمّ، والتِّلميذ يصنَع مشيئة الله وهو الأخ والأخت. تتذكَّرون قولَ يسوع في إنجيل لوقا لأحد النَّاموسِيِّين الّذي سأله: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة، فأعطاه مَثل السّامريّ الصّالح. وفي ختام الـمَثَل، سأل النّاموسيّ الربّ: مَن هو قريبي؟ إنّ القريب، بالنِّسبة إلى اليهوديّ هو قريب الدَّم. في ختام نصّ السّامريّ الصّالح، سأل الربّ النَّاموسيّ: مَن “صار” قريبًا للّذي وَقَع في أيدي اللُّصوص؟ إنّ القريب لا يكون قريبًا في البدء، بل يُصبح قريبًا عندما يَصنع الإنسان الرَّحمة للآخَر. أمّا مغزى الحديث من هذا النَّص الإنجيليّ فهو أنّ قريب يسوع هو مَن يَصنع مشيئة الله. وهنا نتذكَّر أنّ الربَّ قال لشخصٍ واحدٍ هذه هي أُمُّكَ، وهو الّذي وَصَل معه إلى الصَّليب، أي الّذي أطاعه حتّى الصّليب وهو يوحنّا الرّسول.

إنَّ الصِّراع عند مرقس هو الصِّراع نفسه الّذي أظهَرَه بولس الرَسول في كلِّ رسائله. ولكن الصّراع عند مرقس الإنجيليّ يأخذ بُعدًا إنجيليًّا. ولكنَّ الصِّراع هو على نقطةٍ أساسيّة وهي أنَّ الخلاص الّذي أتى به يسوع هو للكُلّ، من دون أيّ استثناءات، أكان عربيًّا أو وثنيًّا، أو كائنًا مَن يكون. إنّ كلّ هؤلاء ينالون الخلاص متى آمنوا بالربّ يسوع واعتمدوا باسمه.

إنّ إنجيل مرقس قد بدأ بهذه القوَّة. وسنبدأ في ما بعد بالإصحاح الرابع وستَرَون كيف أنّ الربَّ في قصّةٍ معيّنةٍ، في حَدَثٍ معيّنٍ، يضرب على الوتر نفسه، وهو أنّ الخلاص هو للكُلّ. قد يقول البعض إنّ هذا أمر معروفٌ بأنَّ الخلاص للكُلّ. وها أقول لكم إخوتي، إنّه لو قَبِلْنا، كمسيحيِّين، أنّ المسيح قد أتى لخلاص الكُلّ، لن يعود باستطاعتنا أن نَكره أحدًا ولا أن نُخاصِم أحدًا، وبالتّالي سنسعى إلى عيش السّلام مع الكُلّ والغفران للجميع إذ سننظر إلى الجميع على أنّهم إخوة. إنّ هذا الكلام بأنَّ الخلاص هو للكُلّ يُصبح “ورطة” لنا متى قبِلناه، إذ يُلقي علينا مسؤوليّة كبيرة. هنا قد يلجأ البعض إلى استعمال بعض أساليب التذاكي، إذ يقولون إنّهم لا يُعادون أحدًا، غير أنّ الآخَرين يعادونهم. في هذا الإطار، أعطانا المسيح جوابًا عن كلامنا هذا إذ يقول لنا طوبى لنا إذا عادانا الآخَرون من أجل كلمة الله، أمّا إذا عادانا الآخرون بسبب بُخلِنا وغِشَّنا وحسدَنا وكبريائنا، وبسبب إهمالِنا له، فهذا لا علاقة له بالمسيح. إذًا، العداوة لا تستطيع أن تكون موجودة إذا كان الإنسان يعيش تحت رِضى الله، أمّا الّذين باعوا أنفسهم للشَّيطان، فسيعادونكم لأنَّكَم أصابُ خَيرٍ وأصحاب صلاح.

ملاحظة: دوِّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp