تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“إنجيل القدّيس مرقس الرّسول – الإصحاح السادس، آية 1-13”
النّص الإنجيليّ: (مر 6: 1-6)
“وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: “مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَما هذِهِ الحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟” فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: “لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلّا فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ”. وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ. وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّم”.
شرح النّص الإنجيليّ:
إنّ هذا المقطعَ من الإصحاحِ السّادس من إنجيلِ مرقس، يَطرحُ جدلاً كبيرًا، سنُحاولُ معالجتَه معًا. إنّ وَطنَ الربِّ هو ناصِرةُ الجليل. وكانت هذه المدينةُ مكروهةً من اليَهود، لأنّها كانت تَضُمُّ يَهودًا ووثَنيّيِن؛ وقد قام الوثنيُّون فيها بإدخالِ عباداتِهم وعاداتِهم إليها ممّا جعَلَها مدينةً نَجِسَةً، بالنِّسبةِ إلى اليَهود. وهنا، نتذكَّرُ قَولَ نتنائيلَ في إنجيلِ القدِّيس يوحنّا:”أمِنَ النَّاصرة يُمكِنُ أن يَخرجَ شيءٌ صالح؟”(يو 1: 46). في هذا المقطعِ، لم يكنِ الربُّ قد اختارَ تلاميذَه، فالقدِّيس مرقس سيُخبرُنا عن دعوةِ الربِّ لهم في ما بعد. لقد تعجَّبَ رؤساءُ اليهودِ وكهنَتُهُم مِن الحِكمةِ والسُّلطانِ اللّذَين يَتمتَّعُ بهما الربّ، وقد ربَطوهما بِسُلطانِ الفِعلِ المتمثِّلِ بِقيامِه بالأعاجيب. وبالتَّالي، مَن له حِكمةُ اللهِ، وسُلطانُ كَلِمتِه، لديهِ في الوقتِ نفسِه سُلطانُ الفِعل.
في هذا المقطعِ الإنجيليّ، نلاحظُ كيف تعمَّدَ اليهودُ تَشويهَ سُمعةِ يسوعَ مِن خلالِ قولِهم عليه: “أليسَ هذا هُوَ النَّجارُ ابنُ مَريم وأخو يَعقوبَ ويُوسي ويَهوذا وسِمعانَ. أَوَلَيسَتْ أخواتُهُ هَهُنا عِندَنا. فكانوا يَعثُرون بِهِ”. عادةً، عندما نُريد التَّعريفَ عن شخصٍ، نقول إنّه ابنُ فُلان، أي أنّنا نَذكُر اسمَ أبيه، لا اسمَ أمِّه. أمّا هُنا، فنَجدُ أنّ اليهودَ قد ربطوا اسمَ يسوعَ بِاسمِ أُمِّه مَريم، لا باسمِ يوسفَ النَّجارِ أبيه. هناك تفسيران لهذا الموضوع: الأوَّل، هو: أنّ ذِكرَ اسمِ مريم في تعريفِهم عن يسوع، لا يُعبِّرُ عن إيمانِهم بالحَبَلِ الإلهيّ، إنّما يُعبِّرُ عن إهانتِهم لِيَسوع، فَبَعضُ اليَهودِ كانوا يَعلمون أنّ مريمَ قد حَبِلَتْ به قَبلَ أن تَسكُنَ مع القدِّيس يوسف، وبالتّالي هو وَلَدٌ غير شرعيّ، بالنِّسبةِ إليهم. أمّا التَّفسيرُ الثّاني، فيَقومُ على الاعتقادِ بأنّ القدِّيس يوسف في هذه الفترةِ كان قد تُوفِّيَ، ولهذا السَّببِ لم يَتمَّ ذِكرُ اسمِه، لذا أضافَ اليهودُ إلى تعريفِهم عن يسوعَ عبارةَ “أخو يعقوبَ ويُوسي ويهوذا وسِمعان”. إنّ عبارةَ: “أوَلَيسَت أخواتُه هَهنا عندنا”، قد خَلَقت جدلاً كبيرًا إذ دَفعَتِ البَعضَ إلى التَّساؤلِ حول وجودِ إخوةٍ وأخواتٍ لِيَسوعَ من مريمَ العذراء. هنا، إخوتي، علينا العودةُ إلى العهدِ القديمِ والتَّعمُّقُ به، لمعرفةِ ما هو المقصودِ بهذه العبارةِ في العهدِ الجديد. إنّ عبارةَ “أخواتُه”، في اللّغةِ العَرَبيّةِ تعني أنّ هذا الإنسانَ لديه على الأقلِّ ثَلاثةُ إخوة. وبالتّالي، إذا قُمنا بِتَعدادِ الأسماءِ الّتي ذَكَرَها مرقس الإنجيليّ في هذه الآية، وَأَضفْنا إليها ثلاثةَ إخوةٍ، يُصبحُ لِيَسوع سبعةُ إخوةٍ على الأقلّ. ونحن نَعلمُ مِن خلال قراءتِنا الإنجيل، أنّ يسوعَ هو ابنُ مريمَ البِكر. وبالتّالي، فإذا كان لِيَسوعَ إخوةٌ، فَهُم أصغرُ منه سِنًّا. عندما صِعَدَ يسوعُ إلى أورشليمَ، مع يوسفَ وأُمِّه مريمَ، في الثّانيةَ عشرةَ من عُمِره، لم يكن لديه إخوةٌ.
إنَّ واحدًا مِن إخوةِ يسوع، بِحَسْب الإنجيليّ مرقس، اسمُه يَعقوب. يُخبرُنا سِفرُ أعمالِ الرُّسلِ أنّ يعقوبَ هذا، كان رئيسَ مجمعِ أورشليم، وهذا يعني أنّه شَيخٌ أي أنّه كبيرٌ في السِّنّ؛ كما يُخبرُنا هذا السِّفرُ أنّ مَجمعَ أورشليمَ قد عُقِد بعدَ فَترةٍ وَجيزةٍ مِن صعودِ يسوعَ إلى السّماءِ برئاسةِ يعقوبَ أخي الربّ؛ وبالتّالي، السُّؤالُ الّذي يُطرَح هو: كيف يُمكِنُ أن يكونَ يسوعُ هو الأخُ البِكرُ وأن يكونَ أخوه شيخًا أكبرَ منه سِنًّا؟! ثانيًا، الأخُ الثَّاني ليَسوعَ بِحَسْب القدِّيس مرقس هو يَهوذا، الّذي كَتَبَ إحدى رسائلِ العهدِ الجديد. ومِن خلالِ قراءتِنا الإنجيل، نقرأُ عبارةَ: “مريم، أُمّ يعقوب ويوسي”(مر 15: 40).
إنّ العادةَ تقومُ على مناداةِ الأمِّ بِاسمِ ابنِها البِكر، فنقولُ لها “أمّ فُلان”، فيَكونُ فُلانُ ابنَها البِكر. وبالتّالي، إنْ كانت مريمُ أُمُّ يعقوبَ ويوسي، فهذا يعني أنَّ مريمَ هذه هي امرأةٌ أُخرى غيرُ مريمَ العذراء، لأنّ مريمَ العذراء هي أُمُّ يسوع، لأنّ ابنَها البِكرَ هو يسوعُ المسيح. وهذا ما نَجدُه واضحًا في إنجيلِ يوحنّا عند سَرِده حدثَ الصَّلب، إذ يقولُ لنا: “وكانت واقفاتٍ عندَ صَليبِ يسوع، أمُّه، وأختُ أمِّه مريم”(يو 19: 25). وهنا نَطرحُ السُّؤال: هل يُعقَلُ أن يُسمِّيَ الأهلُ ابنَتَيهما بِالاسم نفسِه؟! بالطَّبعِ، الجوابُ هو لا! مِن هنا، نستنجُ أنّ “الأُخُوَّة” في الكِتابِ المقدَّسِ لا تعني الّذين لَديهم الأب والأمّ أنفُسَهما، بل تعني الأقرباءَ، أي الّذين تربطُ بينَهم صِلةُ دَم، أي تَجمعُ بَينَهم قرابةٌ معيّنة. وهذا ما يؤكِّدُ عليه الكتابُ المقدَّسُ، العهدُ القديم، إذ نجدُ أنّ ابراهيمَ كان يُنادي ابنَ أخيه، لوط، بعبارةِ “أخي”، قائلاً له: “ألسْنا نحن إخوة؟”(تك 13: 8). وبالتّالي، الأُخوَّةُ، في اللّغةِ الأراميّة، تعني أشخاصًا ينتمون إلى القبيلةِ نفسِها، أو إلى العائلةِ نفسِها. وهنا نسألُ: إن كان لِيَسوعَ سبعةُ إخوةٍ، هل يُعقَلُ ألّا يَكونَ واحدٌ منهم على الأقلّ، حاضرًا إلى جانبِ مَريمَ العذراء، عندما كان يسوعُ على الصَّليب، فيَتمكَّنَ يسوعُ مِن القولِ له،”هذه أُمُّك”(يو 19: 27)، بَدَل أن يقولَها ليوحنَّا الحبيب؟! لو كان لمريمَ العذراءِ أبناءُ آخرون، لكانَتْ التجأتْ إليهم بعد موتِ ابنِها البِكر على الصَّليب.
إنّ إخوةَ يسوع، الّذين ذَكَر أسماءَهم القدِّيسُ مرقس لم يكونوا مؤمِنِين به في البداية، بل كانوا يعتبرونَه سبَبَ مَعثرةٍ لهم، فَهُم لم يكونوا على دِرايةٍ بِمَصدر هذه الحِكمةِ وهذا السُّلطانِ الّلذَين يتمتَّعُ بهما يسوع، ليَستَحِقَّ أن يُدعى “ربّاني”، أي مُعلِّمًا بحسْب الشريعةِ اليهوديّة. في القديم، كانتِ العائلاتُ تعيشُ مع بعضِها البعضِ في بَيتٍ واحدٍ، لذا كانتْ تَسميَةُ أولادِ الأخوالِ أو الأعمامِ بالإخوَة، إذ إنّهم أقرباءُ ويَعيشون في بيتٍ واحد.
بِحَسْبِ إيمانِ الكنيسةِ الجامعة، مريمُ أُمُّ يسوعَ هي “العذراء” وليس “عذراء”، فَكَلمَةُ “العذراء” تعني أنّها كانَت عذراءَ قَبْل الوِلادةِ، وفي أثناءِ الولادةِ وحتّى بعدَ الولادة. وهذا ما نَجدُه واضحًا في الأيقوناتِ البيزنطيّة، إذ يتمُّ رَسمُ ثلاثِ نجومٍ على ثوبِ العذراءِ مريم: واحدةٍ على جَبينِها والأُخريَينِ على كَتِفَيها، للدَّلالةِ على أنّها بَقيَتْ عذراءَ قَبل الولادةِ وفي الولادةِ وبَعدَها. وإذا أرَدْنا الاستفاضةَ في الحديثِ عن موضوعِ ولادةِ مريمَ ليَسوعَ وموضوعَ إخوتِه، علينا مناقشتُه مِن النَّاحيةِ الإجتماعيّةِ النفسيّة.
إنّ أوّلَ المعتَرِضين على بتوليَّةِ العذراءِ هُم البروتستانت، إذ يَربطون مَفهومَ بتوليَّتِها بمفهومِ البتوليّةِ المكرَّسة، وهُم من أشَدِ الرَّافضينَ للحياةِ الرُّهبانيّةِ لأنّهم عانوا مِن سلوكِها السَّيِّءِ في أوروبا، وهي مرتبطةٌ بالقيادةِ الكنسيّة. إنّ لوثر هو مؤسِّسُ الكنيسةِ البروتستانتيّة، الّتي نشأتْ كَنَوعٍ مِن الاعتراضِ على سلوكِ الرُّهبانيّاتِ السَّيِّءِ في أوروبا، فَرفضَ لوثر مِن خلالِها كلَّ ما له علاقةٌ بالحياةِ الرُّهبانيّةِ وبجماعةِ الإكليروسِ في الكنيسة، وقَد دَعمَ فِكرتَه هذه لاهوتيَّا بِرَفضِه بقاءَ مريمَ العذراءِ بتولاً بعدَ الولادةِ، إذ اعتَبَر أنّ مريمَ العذراءَ كانَتْ عذراءَ قَبلَ وِلادتِها يسوعَ المسيح، ولكنَّها بعد ذلك أصبَحتْ امرأةً عاديّةً وأنّها قد أنجبَتْ لِيَسوعَ إخوةً. وهنا نقولُ إنّه لو كانَتْ فَرَضيّةُ إنجابِ مريمَ إخوةً ليَسوعَ صحيحةً، فإنّ هذا الأمرَ لا يؤثِّرُ على إيماننا بِيَسوع، كما أنّه لا يُؤثِّر على بتوليّةِ مريمَ وقداستِها، قَبل ولادتِها يسوعَ المسيح. إنّ التَّقليدَ الكنسيَّ وإيمانَنا المسيحيّ لا يَذكُران لنا أنّ مَريمَ قد أنجَبَتْ أولادًا آخَرين غيرَ يَسوع، وهذا هو المقصودُ بالعبارةِ الّتي نقرأُها في إنجيلِ متّى: “ولَم يعرِفْها حتّى ولَدَتِ ابنِها البِكرَ، فَسَمّاه يسوع”(متى 1: 25).
إنّ الأساسَ في موضوعِ بتوليّةِ مريمَ هو أنّ حَبَلَها بِيَسوع لم يكنْ فيه أيُّ تَدخُّلٍ بَشَريّ، بل هو نتيجةُ تَدخُّلٍ إلهيّ فقط. في أثناءِ سَردِه حَدَث الولادةِ، لا يُعطي الإنجيليُّ متّى أهميّةً لا لحياةِ مريمَ الخاصّةِ بَعدَ ولادتِها يسوع، ولا لحياةِ القدِّيسِ يوسف، بل فقط لحياةِ يسوعَ ورسالتِه التّبشيريّة. إنّ ما يَهمُّ متّى الإنجيليّ هو التَّركيزُ على تَدخُّلِ إصبعِ اللهِ في ولادةِ يسوع، ولذا سمَّاه الإنجيليّ متّى “البِكر”.
إنَّ عبارةَ “البِكر”، في اللّغةِ العَربيّة، تعني أنّه أوَّلَ إخوتِه، ولكنَّ هذا الأمرَ ليس ضروريًّا، إذ قد تعني كَلِمةُ “البِكر” أيضًا، أنّه فاتحُ رَحمٍ، أي أنّه وريثُ أبيه. إنّ الربَّ يسوعَ هو بِكرُ اللهِ الآب، وبالتَّالي هو وريثُ الآبِ لا وَريثَ يوسف. إنّ الربَّ يسوع هو “البِكر”، بِحَسْب القدِّيسِ متَّى، ومِن خلالِ هذه العبارة، أرادَ الإنجيليُّ الإشارةَ إلى أنّ يسوعَ هو بِكرُ الرَّاقدين، أي أنّه أوّلُ قائمٍ من بينِ الأموات. إنّ قيامةَ الأمواتِ ستَتمُّ في اليومِ الأخير، ولكنْ مِن شدَّةِ محبّةِ اللهِ الآبِ لابنِه يسوع تمَّت قيامتُه مِن بين ِالأمواتِ قَبلَ أوانِها، فأخبرَنا الربُّ يسوع مِن خلالِ قيامتِه من بينِ الأمواتِ عن الحالةِ الّتي سنَكُون فيها في اليومِ الأخير. في بَعضِ التَّرجماتِ العربيّةِ للإنجيل، نقرأُ العبارةَ التَّالية: إنّ يسوعَ هو “بِكرُ الخليقة” (كو 1: 15).
إنّ هذه العبارةَ قد أُسيءَ فَهمُها من قِبَلِ الـمُهرطِقين وشُهودِ يَهوه، إذ اعتَبروا أنَّ يسوعَ هو أوّلُ مخلوقاتِ الله، ممّا يعني أنَّ يسوعَ المسيحَ هو مَخلوقٌ لا الإله، وهذا الأمرُ خاطِئٌ تمامًا. إنَّ كلمةَ “بِكر”، في اليونانيّة، تعني رأسَ الخليقةِ أو مُبدِئَها، وبالتَّالي هي لا تَعني أنّ يسوعَ هو أوّلُ خلائقِ الله، كما يعتقدُ المهرطِقون، إنّما تَعني أنّ يسوعَ هو فوقَ كلِّ الخلائق. إنّ الّذين يعتقدون أنّ لِيَسوعَ إخوةً، يَستندون إلى إنجيلِ يوحنّا، حين يقول: “في البَدءِ كان الكلمة، والكلمةُ كانت عندَ الله، وإلهًا كان الكلمة”(1:1).
إنَّ كلمةَ الإله، في اللّغةِ اليونانيّة تُكتَبُ من دون “أل” التَّعريف، ممّا دَفع البَعضَ إلى الاعتبارِ أنّ يسوعَ هو إلهًا وليس الله. وفي الإصحاحِ نفسِه من إنجيل يُوحنّا، نقرأُ العبارةَ التَّالية: “اللهُ لَم يَرَه أحدٌ قَط” (يو1: 18)، وهنا أيضًا وَرَدتْ عبارةُ “الله” من دون “أل” التَّعريف. وهنا نَطرحُ السُّؤال: لماذا نَقبلُ أن تكونَ عبارةُ “الله” هنا مع “أل” التَّعريف، وفي الحالةِ الأُولى لا نَقبَلُ بها، مع أنّ العبارةَ نفسَها وَرَدتْ في الحالَتين؟
إخوتي، في الحالَتين، نتكلَّمُ على ألوهيّةِ الكَلِمة. إنّ المنطقَ البشريَّ لا يَقبلُ أن يَتعرَّضَ إنسانٌ لِكُلِّ هذا الذُّلِّ وهذه الإهانةِ وهذا الألمِ وهذا الجَلدِ وهذا الصَّلبِ، ويكون هو الله! ولهذا السَّبب، لم يَكُن مِن السّهلِ على الوَثنيِّينَ القبولُ بيَسوعَ المسيحِ إلهًا، لأنَّ الأُلوهةَ بالنِّسبة إليهم لا تَسكُنُ في المادّة: فالمادّةُ بالنّسبةِ إليهم هي شَرٌّ والألوهةُ هي خَيرٌ، والخيرُ لا يَسكُن في الشَّر، لذلك رَفضوا التَّجسُّد. وكذلك اليهودُ لم يتمكَّنوا مِن القبولِ بأُلوهيّةِ يسوعَ الـمُتجسِّدِ بينَهم، فَهُم لا يستطيعون القبولَ بإلهٍ ضَعيفٍ تألَّمَ وماتَ على الصَّليب، كما حَصل مع يسوع، لذلِكَ طالبوه حين كان على الصَّليبِ بأن يَنزلَ عنه ليُؤمِنوا به ابنًا لله. كان اليهودُ يَعتبرون يسوعَ كافرًا ومجدِّفًا، إذ قال إنّ الله هو أبوه، فقرّروا قتَله، وهذا ما نَجدُه واضحًا في إنجيلِ يوحنّا. إنَّ هذا الصِّراعَ حولَ حقيقةِ يسوعَ لا يزال مُستَمرًّا إلى يَومِنا هذا في الكنيسةِ مِن خلال البِدَعِ والهرطقات.
إنّ عبارة “القوّة” أو “القّوات”، في الكتابِ المقدَّسِ تعني الأعجوبةَ أو الأعاجيبَ، ولكنّ يوحنّا الإنجيليَّ يُسميِّها آيةً أو آيات. لماذا لم يَصنعِ الربُّ يسوعَ في النَّاصرةِ، كثيرًا من الأعاجيب؟ لأنّ أهلَه لم يكونوا مِن المؤمنِين به، والربُّ يسوعُ لا يُحِبُّ أن يَفرِضَ نفسَه بالقوَّةِ على مَن لا يؤمنون به، مِن خلالِ الأعاجيب؛ ولذلك، نقرأُ في هذا النَّصِّ أنّ الربَّ قد شفى “مرضى قليلين”. ولذلك، نلاحظُ أنّ الإنجيليِّين في سَرِدهِم الأعاجيبَ الّتي كان يقوم بها الربّ ، يُخبروننا أنَّ الربَّ قد تَعجَّبَ من إيمانه (متى 8: 10)، عندَ شفائِه أحدَهم، أمَّا هنا، في هذا النَّصّ، فنَقرأُ عبارةَ أنَّ الربَّ قد “تعجَّبَ من عدمِ إيمانهِم”. في رسالتِه التَّبشيريّةِ، لم يكنْ يسوعُ يَهتَمُّ بِمَن يُعلِّمُ كَلِمةَ الله أو مَن يتعلَّمُها، لأنّ همَّه الوحيدَ هو أن تُعلَّمَ كلمةُ الله للنَّاس. إنَّ الإشكاليّةَ الكبيرةَ الّتي كان يواجهُها يسوعُ في وَطَنِه، هي عدمُ إيمانِ أهلِ مدينتِه به. إنّ عدمَ إيمانِ الإنسانِ بالربِّ يسوعَ يجعلُه غيرَ قادرٍ على الحصول على الخلاص. إنّ هدفَ يسوعَ من رسالتِه الأرضيّةِ هو إيصالُ كلمةِ اللهِ إلى جميعِ النَّاس، يَهودًا كانوا أم وَثنيِّين، فقُبولُ الإنسانِ الربَّ يسوعَ في حياتِه، يدفعُ بالربّ إلى منحِه الخلاصَ حتّى وإنْ كان الإنسانُ وثنيًّا.
بعد أن أظهرَ الربُّ يسوعُ سُلطانَ كَلِمتِه، مِن خلالِ إعلانِه كلمةَ اللهِ للنَّاس، وبَعدَ أن أظهَرَ سُلطانَ قوتِّه مِن خلالِ قيامِه بالأعاجيب، وبَعد أن حدَّدَ مواصفاتِ التِّلميذِ الحقيقيِّ له، ها هو الآنَ يبدأُ بدَعوةِ التَّلاميذِ إلى اتِّباعِه.
النّص الإنجيليّ: (مر 6: 7- 13)
“وَدَعَا الاثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ، وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ، لا مِزْوَدًا وَلا خُبْزًا وَلا نُحَاسًا فِي الْمِنْطَقَة. بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. وَقَالَ لَهُمْ: حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَة”.فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا.وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُم”.
شرح النّص الإنجيليّ:
مِن خلالِ هذا النَّص، نُدرِكُ أنّ الربَّ قد دعا تلاميذَه الاثنَي عَشَر، وقد أرسَلَهم اثنَين اثنَين، وذلك كي تَكونَ شهادَتُهم صادقةً، إذ إنّها ستَكونُ مبنيّةً على شهادةِ شَخصَين، كما تَفتَرضُ الشَّريعةُ اليهوديّة. أرسَلَ يسوعُ تلاميذَه للشَّهادةِ له، وقد طَلَب إليهم ألّا يَحمِلوا معهم شيئًا في الطَّريق، لأنّ الشَّهادةَ المطلوبةَ مِنهم هي ضِمن مناطِقِهم. إخوتي، من غيرِ المنطقي أن يَحملَ الرَّسولُ زوّادةً معه في الطَّريق، إن كان سيُبشِّر في منطقتِه، لأنّه إذا جاع أو عَطِش سيَكونُ أهلُ مدينتِه حاضِرين لتقديمِ الطَّعامِ والماءِ له، إذ إنّه معروفٌ مِن قِبَلِهم. إنّ أهلَ الشَّرقِ الأوسَطِ يُحسِنون ضيافةَ الغُرباء، أمّا في الغَربِ فلا نَجدُ هذه العادةَ عندَهم. إذا سافَرتُم مَثَلاً إلى أميركا أو إلى فرنسا، فستَجِدون أنّ عددَ المشرَّدين على الطُّرقاتِ كبيرٌ جدًّا، إذ لا مأوى لهم. في القديمِ، لم نَكُنْ نرى مُشَرِّدين على طُرقاتِنا ينامون تحتَ الجسور، إذ كان كُلُّ شخصٍ يَهتمُّ بإيواءِ أقربائِه ومساعدتِهم قَدرَ الإمكان؛ أمّا اليوم، فقد أصبحَ الأخُ يتركُ أخاه والأبناءُ يتركون والِديهم ولا يهتّمون بإعانتِهم. إنّ ما وَصلْنا إليه في حياتنِا الإجتماعيّةِ يحتاجُ إلى قراءةٍ إيمانيّة، من أجلِ العملِ على تحسينِ الأمور.
“بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ”.
إنّ الربَّ هنا يطلبُ من تلاميذِه أن يَرتَدوا أحذيةً مريحةً تساعدُهم على الـمَشي، لأنّه على ما يبدو هناكَ الكثيرُ من الـمَشي، وبالتّالي تَعبٌ كَثير. إنّ الحذاءَ الّذي كان معتمَدًا في تلك الأيّامِ هو حذاءُ الجِلدِ العالي ذي رباطٍ. إنّ إرتداءَ الرَّسولِ أكثرَ من ثوبٍ يتركُ عند الّناسِ انطباعًا أنّه رَجُلٌ غنيّ، وبالتّالي يمتلكُ فَيضًا من الثِّياب. بالنِّسبةِ إلى يسوع، على الرَّسولِ أن يكونَ زاهدًا وعفيفًا في أمورِ الدُّنيا، كي يتمكَّنَ مِن أن يكونَ بتولاً لكلمةِ الله. إنّ البتوليّةَ تعني الانقطاعَ عن الشَّيء. إنّ الإنسانَ البَتولَ هو الإنسانُ غيرُ المتزوِّجِ، أي أنّه ذلك الإنسانُ الّذي انقطعَ عن كلِّ شيءٍ كان يعتبرُه أساسيًّا في الحياة، قَبل إيمانِه بالربِّ يسوع. عندما يؤمِنُ الإنسانُ بالربِّ يسوع، يُصبحُ اللهُ جوهرَ حياتِه، فيَنقطِعُ عن كلِّ أمورِ الدّنيا، وفِيه يتحقَّقُ قولُ الربِّ لنا: “حيث يكون كنزُك فهناك يكون قلبُك” (متى 6: 21).
“وَقَالَ لَهُمْ: “حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَة”.
إنّ مقياسَ العلاقاتِ والصَّداقاتِ والقرابةِ بين الرَّسولِ والمحيطين به، هو إيمانُهم بالربِّ أو عَدَمُه. في يومِ الدَّينونة، أي في اليومِ الأخيرِ، سيَقومُ الربُّ بالحُكمِ على كلِّ مدينةٍ انطلاقًا مِن قبولِها كَلِمةَ الله أو رَفضِها لها. إذًا، الدَّينونة ستَكونُ مَبنيّةً على قبولِ الإنسانِ بِكَلمةِ اللهِ أو عَدمِه.
“فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُم”.
إنّ الزَّيتَ الّذي يستعمِلُه الرُّسلُ لِدَهنِ المرضى هو زيتٌ مقدَّس، مرتَبِطٌ بالبَرَكةِ الرَّسولية. إنّ الربَّ قد مَنحَ رُسُلَه السُّلطانَ نفسَه الّذي يمتَلِكُه. إنّ كلَّ مَن سيَحِملُ كَلِمةَ الإنجيل، سَينالُ سُلطانَ المسيح؛ ومَن ينالُ سُلطانَ المسيح عليه التّحلِّي بِتَواضعِ المسيح. على الرَّسولِ الّذي يُبشِّرُ بالمسيحِ أن يتحلَّى بالتَواضعِ وإلّا تَحوَّلَ السُّلطانُ الّذي نالَه مِن المسيحِ إلى تَسلُّطٍ و”سِيمونيّة” أي تَسخيرِ مواهبِه مِن أجلِ مآربِه الشَّخصيّة. وهُنا يَكمن الخَطر! عندما يَقعُ الرَّسولُ في هذا الفخّ، سيَتَكبَّرُ على الآخَرين ويتعالى عليهم ويُسخِّرُ مواهبَه الّتي يعتَبرُها مِن اللهِ من أجلِ مآربهِ الخاصّة.
إنّ بعضَ الرُّسلِ قد يَعمَدون إلى التَّحلِّي بالتَّواضعِ الـمُزيَّف. إنّ مِثلَ هذا التَّواضعِ يُعبِّر عن كبرياءَ مُضخَّمةٍ تَخلقُ في الإنسان غِشًّا ووَهمًا، وهذا يعني أنّ هذا الإنسانَ يتَّخِذُ موقفَ الشَّيطانِ على الرُّغم مِن أنّه يَحمِلُ مواهبَ المسيح، وبالتَّالي سيَذهبُ إلى جهنَّم. لذا، على كلِّ رَسولٍ أن يتمثَّلَ بالمسيح وأن يسعى إلى تطبيقِ قَولِ الربِّ لنا: “تعلَّموا منِّي، فإنِّي وديعٌ ومتواضعُ القلب”(متى 11: 29). إذًا، العملُ التَّبشيريُّ الّذي يقومُ به الرُّسلُ هو عَملٌ إلهيٌّ، ويتطلَّبُ تواضعًا حقيقيًّا. إخوتي، إنّ القدِّيسين هُم أكبرُ مِثالٍ لنا على ما نَقول، فَهُم لم يتكلَّموا يومًا على العجائبِ الّتي يقومون بها، وهذا دليلٌ واضحٌ على تواضُعِهم وانسحاقِهم.
للأسفِ، إخوتي، لم يَتعمَّدْ ذِهنُنا بعد، إذ لا نزال متعلِّقين بالذِّهنيّةِ اليهوديّة، لذا نسعى باحِثين عن العجائبِ الّتي يقومُ بها القدِّيسون ونُركِّزُ عليها، وننسى التأمُّلَ في حياتهِم، هُم الّذين عاشوا حياةَ الزُّهدِ واعتمدوا العيشَ في الخفاء كي لا ينالوا المديحَ من الآخَرين. إخوتي، إنّ تأثُّرَكُم بالـمَدحِ أو الشَّتمِ اللّذَين قد تنالونَهما من الآخَرين، هو دليلٌ على أنَّ التَّكبُّرَ قد أصابَكم. إذا أرادَ الإنسانُ أن يتعلَّمَ التَّواضعَ، فعليه الذَّهابُ إلى المقابرِ، ويسعى تارةً إلى مَدحِ الأمواتِ وتارةً إلى شَتمِهِم، وسيُلاحظُ أنّهم لن يتأثَّروا بكلامِه مهما قال. هكذا على الرَّسولِ أن يكونَ: كالأمواتِ أمامَ الـمَدحِ والشَّتمِ، فلا ينفعلُ لا غرورًا ولا إحباطًا، لأنّه حاملٌ مواهبَ المسيح. هنا، إخوتي، على كلِّ واحدٍ منّا أن يقومَ بمراجعةٍ ذاتيّةٍ، فيَكتشفُ الأمورَ الّتي يتأثَّرُ بها. إخوتي، إنّ التَّجريحَ والتَّوبيخَ يُسبِّبُ أزماتٍ للإنسان، كالخصوماتِ والعَداواتِ، والانفصالات.
إنّ أعلى درجاتِ القداسةِ، هي حُسنُ الظَّنِّ، وعدمُ التّأثرِ لا بالمدحِ ولا بالشَّتم. وهنا أتذكَّرُ أسقفًا، هو مِن كبارِ الواعِظين، وهو أشبهُ بِيُوحنَّا الذَّهبيّ الفَم في عَصرِنا، ألقى عِظةً على المؤمِنِين أثناءَ الاحتفالِ بالقدّاسِ الإلهيّ. وعندَ نهايةِ القدّاس، بادرَتْه امرأةٌ إلى التَّعبيرِ عن فَرَحِها بالعِظةِ الّتي سَمِعتْها منه وبدأتْ تَمدحُه، فما كان منه إلّا أن بادَرها بالقولِ إنّ الشَّيطانَ قد سبَقَها وهَمس في أُذنِه العبارةَ نفسَها الّتي قالتْها له.
إنّ مِثلَ هذا الجوابِ، قد جعلَ المرأةَ تنسحبُ من دونِ أن تُدرِكَ ما الّذي عليها قَولُه عندئذٍ. عندما نَصلُ إلى هذه المرحلةِ من اللَّامبالاةِ مِن سماعِنا المديحَ أو الذّمَّ، نكونُ في طريقِنا الصَّحيحِ نحو القداسة. إخوتي، إنَّ شُكرَ الأشخاصِ الّذين يُلقونَ المديحِ على مسمَعِنا، مِن شأنِه أن يُشجِّعَهم على الـمُضيِّ قُدمًا في ما يقومون به. عندما تقومُ بِمَدحِ الإنسانِ على فضيلةٍ يعيشُها، فإنّك تُشجِّعُه على المثابرةِ عليها؛ أمّا عندما تُشجِّعُه على مَدحِه لكَ، فإنَّك تُساعدُه على التَّكبُّرِ أكثر، إذ يَعودُ غيرَ قادرٍ على تَحمُّلِ أيَّةِ ملاحظةٍ قد تُوجَّه إليه في ما بَعد.
كان هَمُّ الرُّسلِ إعلانَ كلمةِ اللهِ لجميعِ النَّاس: فإنْ قَبِلَها النَّاسُ أعلنوا إيمانَهم بالربّ؛ وإن لَم يقبلْها النَّاسُ انتقلَ الرُّسلُ إلى مدينةٍ أُخرى نافِضين غُبارَ هذه المدينةِ عن أرجُلِهم. لم يكنْ لدى الرُّسلِ وقتًا للبكاء ِبسببِ تَعرُّضِهم للشَّتمِ والرَّفضِ من الآخَرين، إذ كرَّسوا الوقتَ الـمُتاحَ لَهم في هذه الأرضِ لإعلانِ البشارةِ بكلمةِ الله.
أمّا نحن، فإنَّنا نُمضي وَقتَنا في التَّعبيرِ عن انزعاجِنا من الشَّتائمِ الّتي نتعرَّضُ لها وعن فَرَحِنا بِسَماعِنا المديح. إخوتي، علينا أن نَعرفَ كيف نستفيدُ من المواهبِ الّتي مَنَحَنا إيّاها الله. ما مِن أحدٍ من دونِ موهبةٍ، فاللهُ مَنحَ الجميعَ مواهِبَه، ولكنّ موهبةَ الواحدِ منّا تختلفُ عن موهبةِ الآخر: فقد تكونُ موهبةُ البَعضِ الابتسامةَ، وآخَرين موهبةَ الخدمةِ في الكنيسة، وآخرين موهبةَ إلقاءِ السَّلامِ على الآخرين، وآخَرين موهبةَ الكتابةِ، وآخرين موهبةَ التَّرنيمِ، وآخَرين موهبةَ تَحضيرِ الطَّعام. إنّ الصَّوتَ الجميلَ هو نتيجةُ عاملٍ وراثيّ حصَلْتَ عليه، فإذا وَضَعْتَه في خدمةِ المسيح يُصبحُ موهبةً. هناك فَرقٌ بين “خاريس” أي نِعمة، و”خاريسما” أي مَوهبة. إنّ “الخاريسما” هي نتيجةُ “الخاريس”: فعندما تَضعُ النِّعمةَ الّتي مَنَحَك إيّاها اللهُ في خِدمةِ المؤمِنِين تُصبحُ مَوهبةً. وبالتَّالي، ليسَ كُلُّ مَن يَملكُ نِعمةً لديه موهبة. فإنّ أجملَ الأصواتِ في أيّامِنا تُغنِّي للشَّيطانِ في بلادِ الغَرب، وبالتّالي هذه النِّعمةُ لم تتحوَّلْ إلى موهبةٍ لأنّ صاحبَها قد أساءَ استخدامَها، وهي بالتّالي فقط نِعمةٌ لأنّها نتيجةُ جيناتٍ مَوروثة.
لذا، علينا أن نكونَ متيَّقظين جدًّا، لكلِّ مَدحٍ قد نتعرَّضُ له؛ وكذلك لِكُلِّ ذمّ، لأنّ الأساسَ ليس مَن يُعلِّمُ ومَن يتعلَّمُ، بل أن تُعلَّمَ كلمةُ اللهِ لجميعِ النَّاس. آمين.
ملاحظة: دُوّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.