تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“إنجيل القدّيس مرقس الرّسول – الإصحاح السادس، آية 14-56” 

النّص الإنجيليّ: (مر 6: 14-29)

“فَسَمِعَ  هِيرُودُسُ الـمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُورًا. وَقَالَ: “إِنَّ يُوحَنَّا الـمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ.” قَالَ آخَرُونَ: “إِنَّهُ إِيلِيَّا”. وَقَالَ آخَرُونَ: “إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ”. وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: “هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!”. لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: “لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ”. 

فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيرًا، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ. وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ، دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: “مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ”. وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ “مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي”.

فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: “مَاذَا أَطْلُبُ؟” فَقَالَتْ: “رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ”. فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: “أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالًا رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَق”. فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافًا وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَق وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

في القِسم الثَّاني من الإصحاحِ السَّادس، أي في هذا النَّصِ الّذي نُناقِشُه اليوم، يُخبرُنا الإنجيليّ مَرقس أنّ َالعهدَ القديم قد انتهى بِمَوت يوحنَّا المعمدان مقطوعَ الرَّأس، وأنَّ العهد الجديد قد بدأ مع الربِّ يسوع الّذي قام بإطعامِ الجموعِ الّتي تتبَعُه. وقد وَصفَ الإنجيليّ مَرقس هذه الجموعَ المحتَشِدةَ حول يسوع، قائلاً فيها: ” كَانُوا كَخِرَافٍ لا راعِيَ لَها” (مر 6: 34). إنّ هذه العبارةَ تُذكِّرُنا بالنبيّ حزقيال والنبيّ إرميا اللّذين أخبرانا أنّ اللهَ سيُرسِلُ راعيًا لِشعبه؛ وها هو مرقسُ اليومَ يُعلِنُ تحقيقَ تِلك النُّبوءةِ بِمَجيء الرَّاعي الحقيقيّ، يسوعَ المسيح، الّذي بدأ برعايةِ شعبِه مِن خلال مُعجزةِ الخُبزات الخَمس والسَّمكَتين.

النّص الإنجيليّ: (مر 6: 30- 48)

 “وَاجْتَمَعَ الرُّسُلُ إلى يَسوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ ما فَعَلُوا وَكُلِّ ما عَلَّمُوا. فَقَالَ لَهُمْ: “تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إلى مَوْضِعٍ خَلاءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلًا”. لأَنَّ القادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إلى مَوْضِعٍ خَلاءٍ مُنْفَرِدِينَ.

 فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَراكَضُوا إلى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لا راعِيَ لَها، فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُم كَثِيرًا. وَبَعْدَ ساعاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيهِ تَلامِيذُهُ قَائِلِينَ: “الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ وَالْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزًا، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ”.
فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: “أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا”. فَقَالُوا لَهُ: “أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزًا بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟” فَقَالَ لَهُمْ: “كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا”. 

وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: “خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ”. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقًا رِفَاقًا على العُشْبِ الأَخْضَرِ. فَاتَّكَأُوا صُفُوفًا صُفُوفًا: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ. وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ”.

وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إلى العَبْرِ، إلى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. “وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

هذه القصّةُ تُذكِّرُنا بالشَّعب اليهوديّ بعدما أَخرَجَه الله من أرضِ مِصرَ: فعندما شَعر هذا الشَّعبُ بالجوعِ في الصَّحراء، تذمَّرَ على الله مِن خلال تَذَمُّرِه على موسى قائلاً له إنّهم كانوا يُفضِّلون البقاء عند فِرعون على الموتِ في الصَّحراء جوعًا. وعندما فَشِل موسى في تحقيقِ طلباتِ الشَّعبِ بِنَفسِه، رَفَعها إلى الله، فأرسَل الله إلى شعبه الـمَنَّ والسَّلوى، طالبًا منه ألَّا يُخزِّنَ منه شيئًا لليوم التَّالي، لأنّه سيَرزقُه طَعامه في حينِه. غير أنّ البَعضَ مِنهم لم يُصدِّقوا الله، فخزَّنوا الطَّعام، وإذ بهم يتفاجأون حين كانوا يجدون أنّ الطَّعام قَد فَسُدَ في اليوم التَّالي. لقد اعتقد هؤلاء أنّ باستطاعتهم تأمينَ احتياجاتهم مِن الطَّعام بأنفُسِهم، ولكنّ اللهَ أكَدَّ لهم من خلال فساد الطَّعام أنّهم لا يستطيعون شيئًا بِمَعزِلٍ عنه، لأنّ الله هو راعيهم ومَلِكُهم. بالعودة إلى هذا النَّصِ الإنجيليِّ الّذي نتأمَّلُ فيه، نلاحظ أنّ الشَّعب كان متواجدًا في مكانٍ قَفرٍ أي في مكانٍ أشبهَ بالصَّحراء، أي ليس فيه مقوِّماتُ الحياة من ماءٍ وطعام. 

إنّ العبارةَ الّتي قالها يسوعُ لتلاميذِه: “أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا” (مر 6: 37)، جَعَلَت هؤلاء يُدرِكون أنَّهم لا يستطيعون شيئًا من دون الربِّ. وفي مقارنةٍ بين هذا النَّصِّ ونصِّ خروجِ الشَّعبِ من مِصرَ إلى الصَّحراء، نلاحظُ أنّ التَّلاميذ ، على مِثال موسى، لم يتمكَّنوا مِن فِعل شيءٍ للشَّعب من دون الله؛ وأنَّ الربَّ استطاعَ إطعامَ الشَّعبِ الّذي كان يتبَعُه كما استطاع اللهُ في العهدِ القديم فِعلَ ذلك. إخوتي، لا يمكنُنا أن نُقارِنَ موسى بيَسوع، لأنَّ الربَّ يسوع هو كلمةُ الله، وبالتّالي علينا مقارنتُه بالله في العهد القديم؛ أمّا التَّلاميذُ فَهم على مِثال موسى، تَلاميذُ يُطيعون كلمةَ الله ويَعمَلون بها.

“فَاتَّكَأُوا صُفُوفًا صُفُوفًا: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ “(مر 6: 40): 

إنّ الربَّ يسوع قد طَلَب من تلاميذِه أن يُجلِسوا الشَّعبَ مجموعاتٍ مِن خَمسينَ شخصًا أو مِن مئةِ شَخصٍ. إنّ الجلوسَ على هذا النَّحو، أي ضِمنَ مجموعاتٍ مِن خَمسينَ أو مِئةِ شخصٍ هي عادةٌ يهوديّةٌ تُمارَسُ في تَنظيمِ الاحتفالات. إنّ الجلوسَ ضِمن مجموعاتٍ يُشير إلى وجودِ راعٍ للشّعب.

“فَقَالَ لَهُمْ: “تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إلى مَوْضِعٍ خَلاءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلًا”(مر 6: 31): 

في هذه الآيةِ، يُخبِرُنا الإنجيليُّ مَرقس أنّ الجموعَ كانت تُلاحِق يَسوع والرُّسل، إلى حدِّ أنَّ هؤلاء لم يَكن باستطاعتِهم تَناوُلُ طَعامِهم. لذلك، طَلَبَ الربُّ يسوع مِن تلاميذه أن يذهبوا إلى مكانٍ بعيدٍ عن النَّاس، ليتمكَّنوا مِن الاستراحة ومِن تَناولِ الطَّعام.   

“وَبَعْدَ ساعاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيهِ تَلامِيذُهُ قَائِلِينَ: “الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى”(مر 6: 35). 

إنّ عبارة “الوقت مَضى”، أو “فات الوقت”، تدلُّ على اليأس وفُقدانِ الرَّجاء عند التَّلاميذ. إخوتي، من دون الله، الوقت سَيمضي، وسنَشعُرُ بأنّنا في مكانٍ قَفرٍ، في مكانٍ صحراويّ، لا أمَل فيه لاستِمرارِيَّةِ الحياةِ.  

“فَقَالُوا لَهُ: “أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزًا بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟” (مر 6: 37).  

في ذلك الزَّمان، كانت أُجرَةُ العامِل في اليوم الواحد تساوي دينارًا واحدًا. وبالتَّالي، فإنّ مِئَتي دينار، تُساوي أُجرةَ مِئَتي عاملٍ في يومٍ واحد، أو أُجرةَ عاملٍ على مُدَّة مِئَتَي يومٍ، وهذا يدلُّ على أنّ عددَ الجموعِ الّتي كانت تَتبَعُ يسوع كبيرٌ جدًّا، وبالتَّالي فإنَّ التَّلاميذَ يحتاجون إلى كميَّةٍ كبيرةٍ من الطَّعام لإشباعهم.  

“فَقَالَ لَهُمْ: “كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا”. وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: “خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ”(مر 6: 38). 

إنَّ الرَّقم خَمسة يُشير إلى البيئةِ اليَهوديّة. وهذا يعني أنّ هذه الأعجوبةَ تمَّتَ في البيئةِ اليهوديّة، بحَسْب الإنجيليّ مرقس. ولكنَّ الإنجيليّ متَّى يَذكُر لنا أعجوبَتَي تَكثيرٍ للخُبزِ قام بهما يسوع: الأولى قام بها يسوع في منطقةٍ يهوديّة، إذ أخبرَنا الإنجيليّ متّى أنّ الربَّ قام بِتَكثير الخُبزات الخَمس، وكما قُلنا إنّ الرَّقم خمسة يُشير إلى البيئةِ اليهوديّة؛ والثَّانية: قام بها يسوع في منطقةٍ وثنيِّةٍ بدليلِ أنّ الإنجيليّ متَّى ذَكر لنا أنَّ يسوع قام بتَكثيرِ سبعةِ أرغفةٍ وإطعام أربعةِ آلافِ شخصٍ (متى 15: 32- 39)، والرَّقم سبعة يرمز إلى الكمال والرَّقم أربعة إلى جهَّات الأرض الأربع، وبالتَّالي حدثَتْ هذه الأعجوبةُ في منطقةٍ وَثنيّةٍ. هذا في ما يَخُصُّ عدد الخُبزات! 

أمّا في ما يَخُصُّ عددَ السَّمكات، فنلاحظ وجودَ اجتهاداتٍ كثيرةٍ لِتَفسير رمزيّةِ السَّمكَتين. إنّ إحدى التَّفسيراتِ لموضوع السَّمكتين، تقومُ على اعتبارِ السَّمكةِ مِن أهمِّ الرُّموز المسيحيِّة. إنّ السَّمكةَ في اليونانيّةِ، هي “إختِيس”، وكلُّ حَرفٍ مِن حروفها يُشير إلى كلمةٍ تدلُّ على حقيقةِ المسيح، فحُروفُ  كَلِمةِ “سمَكة” في اليونانيّة تشكِّل الحروف الأولى لِلكَلِماتِ الّتي تؤلِّف هذه الجُملة: “يسوع المسيح ابن الله الـمُخلِّص”. في الكنيسةِ الأُولى، كان المسيحيِّون يلجأون إلى استعمال الرُّموزِ في أيّامِ الاضطهادات، فاستخدموا رَمز السَّمكة أوّلا ثمَّ الـمِرساة، قَبل استِخدامِهم الصّليبَ كَرَمزٍ لهم. ولكنَّ السُّؤالَ الّذي يُطرح هو: ما هي دلالةُ السَّمكَتَين؟ 

إنّ بَعض مفسِّري الكتاب المقدَّس يَعتقدون أنّ ذلك يعود للربّ الّذي يريدُ، بنَظَرِهم، أن يقولَ لنا إنّه يريدُ أن يُعطيَنا أوّلاً ما وَعَد به اللهُ في العهدِ القديم ألا وهو المخلِّص، ويريدُ ثانيًا أن يُعطيَنا عَملَ الفِداءِ الّذي قام به هو شخصيًّا في العهدِ الجديد. إخوتي، في الكتابِ المقدَّس، لا نَتكلَّمُ على واقعيّةِ الحَدَث، إنّما على إعطاءِ تَفسيرٍ له، وهذا يعني أنّه قد تكونُ هناك سمَكَتان أو أكثر، ولكن ذِكرُ السَّمكتين، تحديدًا، يعودُ إلى غايةِ كاتِب النَّص الإنجيليّ. إنّ الحدثَ في الكِتابِ المقدَّس مُهمٌّ، ولكنَّ الأهمَّ هو تَفسيرُه، أي معرفةُ الغايةِ الّتي لأجلِها دُوِّن هذا الحدثُ، في هذا المكانِ وفي هذا الوقت.

“فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقًا رِفَاقًا على العُشْبِ الأَخْضَرِ” (مر 6: 39). 

في بدايةِ هذا النَّص، أخبرَنا الإنجيليُّ مرقس أنّ الشَّعبَ موجودٌ في مكانٍ قَفرٍ أي في مكانٍ صَحراويّ؛ وها هو الآن، يُخبرُنا أنّ الشَّعب قد جَلَس على العُشب، وبهذا الكلام أراد القدِّيسُ مرقس أن يُخبرَنا أنّ الشَّعبَ الّذي كان بلا راعٍ قد وَجد راعيًا له، وهو يسوعُ المسيح.

“وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ”(مر 6: 44). 

في القديم، كان الرِّجالُ يَجلِسُون في مكانٍ مُنفَصلٍ عن النِّساءِ والأطفال. وبالتَّالي، إذا كان عددُ الرِّجالِ خَمسةَ آلافِ رَجُلٍ، فهذا يعني أنّ عددَ الآكِلين يفوقُ هذا الرَّقمَ بأضعافٍ، إذا اعتَبَرنا أنَّ كلَّ رَجلٍ قد اصطَحبَ معه عائلتَه إلى هذا المكان. في نهايةِ سَردِه هذا الحَدَثَ، يقولُ لنا الإنجيليّ مرقس: “ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ” (مر 6: 43). إنّ الرَّقم اثنَي عشر يرمز إلى الشُّموليّة، وهذا يعني أنَّ السِّلالَ الـمُتبقيَّةَ تكفي لِتَكونَ طعامًا لِمجموعةٍ أُخرى من النَّاس. ومن هذا المنطَلَقِ، على الكنيسةِ، أي جماعةِ المؤمِنِين، أن تكون بابًا مفتوحًا يَدخُل منه كلُّ عابرِ سبيلٍ مُتَعطِّشٍ لكلمةِ الله، فَينالُ الطَّعامَ الّذي يحتاجُ إليه؛ وبالتَّالي، على الكنيسةِ أن تُعلنَ البشارةَ لكلِّ مَن يَطلبُ سماعَها. في هذا القِسم من الإصحاحِ، يُعلنُ لنا القدِّيسُ مرقس أنّ الربَّ هو الرَّاعي الصَّالحُ الوحيدُ، وقائدُ الخلاص. 

وهنا، نَتَذكَّرُ ما قالَه الربُّ على لِسانِ النَّبيّ حزقيال عن الرُّعاةِ الّذين لم يُحسنوا رعايةَ قطيعِ الرّب: “ويلٌ لرعاةِ إِسرائيلَ الّذينَ كانوا يَرعَونَ أنفُسَهُم.” (حز 34: 2). لذلك، يُخبرُنا القدِّيسُ يوحنَّا عن الرَّاعي الصَّالح، إذ قال الربّ يسوعُ عن ذاته: “أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَاف”(يو 10: 11) . 

إنّ الرَّاعيَ الصَّالحَ يَعرِفُ قطيعَه، يَعِرفُ كلَّ خَروفٍ باسِمه، ويَعرِفُ علَّةَ كلِّ واحدٍ منها، ولذا هو يهتمُّ بكلِّ واحدٍ منها انطلاقًا من عِلَّته. إنّ الربَّ، الرّاعي الصّالح، يهتمُّ بكلِّ واحدٍ منّا انطلاقًا من ضُعفِنا، فالربّ يَعرِفُنا كما يَعرفُ الرَّاعي خرافَه. إنّ المؤمِنَ الّذي يعاني من نَقصٍ ما، يتوجَّهُ في صلاته إلى الله طالبًا منه سدَّ هذا النَّقصِ أو هذه الحاجة. قد يطلبُ الإنسانُ من الله تلبيةَ رغباتِه، ولكنّ اللهَ لا يُلبيِّ إلّا حاجاتِ الإنسان، كما يراها هو، فهو الرّاعي الصَّالحُ  الّذي يَعرفُ حاجاتِ كلِّ واحدٍ منّا. 

إذًا، بَعدَ أن أخبَرَنا القدِّيس مرقس عن انتهاءِ العهدِ القديمِ بِمَوتِ يوحنّا المعمدان، أخبَرَنا عن هذه الحادثةِ ليقولَ لنا إنّ الربَّ يسوع هو الرَّاعي الصَّالحُ لهذا الشَّعب. كان هذا الشَّعبُ تائهًا في الصّحراء من دون راعٍ، وقد أصبح له راعٍ، عندما أطعَمَه الربُّ يسوع  وأجلَسَه على العشب. هذا الشَّعبُ نفسُه طالَبَ في ما بعد بَقَتلِ يسوع، صارخًا: “لِيُصْلَبْ!”(متى27: 23). وهنا، نَطرحُ السُّؤال: مَن هو الجَلّاد ؟ ومَن هو الضَّحيّة؟ كثيرون يعتقدون أنّ الله هو الجلّادُ وأنّهم، أي البشرَ، الضّحايا؛ ولكنَّ الحقيقةَ هي أنّ اللهَ هو الضحيّةُ، والبشرَ هُم الجلّادون.

“وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إلى العَبْرِ، إلى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ”.

إنّ بيت صَيدا، لا تقعُ في لبنان، إنّما في الجليل، أي في فِلسطين. إنّ عبارةَ “عند الشّاطئِ المقابل” تُشيرُ إلى أنّ الربَّ يسوع قد  انتقلَ إلى مَناطِقِ الأُمَم، أي إلى مَناطِقِ الوثنيِّين.
“وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ”. 

يُخبرُنا الإنجيليُّ مرقس أنّ هناك حديثًا خاصًّا بين يسوعَ والآبِ السَّماويّ.

“وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ”.

إنّ المقصودَ بعبارةِ “في الهزيع الرّابع”، الوقتُ الذي أتى به يسوعُ إلى تلاميذِه ماشيًا على البحر، وهو ما بين السّاعةِ الثّالثةِ والخامسةِ فَجرًا. وفي هذا الوقتِ تحديدًا، لا يكونُ اللِّيل قد انجَلى بعد والشَّمسُ لم تُشرِق، لذا نجدُ أنّ التّلاميذَ لم يتمكَّنوا من التَّأكُّدِ إذا كان ما رأوه شبَحًا أو هو الربُّ حقيقةً.

النّص الإنجيليّ: (مر 6: 49- 52)

“فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالًا، فَصَرَخُوا. لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: “ثِقُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا”. فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدًّا إِلَى الْغَايَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً”.

شرح النّص الإنجيليّ:

يُخبرُنا القدِّيس مرقس أنّ التَّلاميذَ قد خافوا، فحضورُ الربِّ يَضعُ الرَّهبةَ أينما وُجِد. إنّ الربَّ يتدخَّلُ في حياةِ الإنسان، عندما يكونُ هذا الأخيرُ خائفًا، فيأتي الربُّ إليه ويُعطيه الأمانَ والثِّقة، كما حدَث هنا إذ قال الربُّ للتَّلاميذ: “ثِقُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا” (مر 6: 50). قد يعتقدُ البَعضُ أنَّ المقصودَ بعبارة “أنا هو”: “أنا هو يسوع”. إنّ هذا الاعتقادَ قد يكون صحيحًا، ولكنَّ عبارة “أنا هو”، تُذكِّرُنا بالعهد القديم، حين عرَّف اللهُ عن ذاتِه لموسى، قائلاً له باللُّغة العِبريّة: “أهيِه أشِر أهيِه” (خر 3: 14)، وهي تَعني في العربيّة: “أكون الّذي أكون”، وهي تعني أنَّ اللهَ يُعرِّفُ عن ذاتِه لموسى ومن خلالِه للشَّعب بأنَّ الّذي يُكلِّمُهم الآنَ هو الإلهُ نفسُه الّذي عبَدوه سابقًا، الّتي تعني أنّ اللهَ يُعرِّفُ عن ذاتِه من خلالِ الحدثِ الّذي يقومُ به. إنّ العِبارةَ العِبريّةَ “يَهوه”، قد تُرجِمَتْ إلى اليونانيّة بِعِبارة “Kyrios”، تُشيرُ إلى الله؛ وقد كان اليهودُ يشعرون بالرَّهبةِ عند لَفظِها، لذا استبدلوها بِعبارة “أَدُوناي”. 

في المسيحيّةِ، نحن نؤمِنُ بأنّ إلهَنا هو إلهُ حَدَث، لا إلهَ مكانٍ ولا إلهَ زمان. وبالتَّالي، إذا نَظرْنا إلى الله على أنّه إلهُ مكان، غَرِقنا في الصَّنميّة؛ وإذا نَظَرنا إليه على أنّه إلهُ زمان، غَرِقنا في التَّاريخ. هنا، تَظهرُ أهميّةُ الفِكرِ اللِّيتورجيّ في الكنيسة: فعندما كَتَب الآباءُ القدِّيسون صلواتِ القدَّاسِ الإلهيّ، عَمِلوا على استِذكارِ وتَذكيرِ المؤمِنِين بما قام به الربُّ مع شعبِه عَبر التّاريخ، وهذا ما يُسمَّى “amneses”، أي الكلامَ الجوهريَّ في القدّاس. 

إنّ القدِّيس باسيليوس الكبير، في كتابَتِه للقدَّاس الإلهي، عَمِل على تَذكيرِ المؤمِنِين بما قام به اللهُ معهم، منذ بدايةِ سِفر التَّكوينِ إلى سِفر الرُّؤيا، فلخَّصَ للمؤمِنِين الكتابَ المقدَّسَ في صفحاتٍ معدودةٍ، خاتمًا كلامَه بأنّ هذا الإلهَ الّذي عَبَدوه عبر التَّاريخِ هو نفسُه يُرسِلُ إليهم اليومَ الرّوحَ القدسَ لِيُحوِّلَ الخُبزَ والخَمرَ إلى جسدِ الربّ ودَمِه.

إخوتي، إنّ إلهنا هو إله حدث! إليكُم مثالاً على ما نقول: إنّ حَدَثَ القيامةِ الّذي نَحتَفِلُ به في الكنيسة لا نحتفلُ به كحَدَثٍ مرَّ في التَّاريخ، إنّما نحتفلُ به كَحَدَثٍ يتحقَّقُ اليوم، والدَّليلُ هو العِباراتُ المستعملةُ في اللّيتورجيا الكنسيّةِ، الّتي نقولُ فيها:”اليومَ عُلِّق على الصَّليب”، اليومَ قام من بينِ الأموات”، “اليومُ هو يوم القيامة”. 

نحن لا نعيشُ حدثَ القيامةِ كي نُدخِلَ اللهَ في يومِنا، إنّما نَعيشُه كي نَدخُلَ نحن في يومِ الربِّ، فنتمكَّنَ من تَذوُّقِ هذا الحدثِ، ونَحصُدَ ثِمارَه في حياتِنا اليوميّة. عندما نقولُ “اليوم”، فإنّنا لا نقولُ ذلك من بابِ الذّكرى في اللِّيتورجيا الكنسيّةِ، إنّما من بابِ التَّذكُّر ِوالذِّكرِ، فنتذكَّرُ ما قام به الربُّ من أجلِنا، ونتَّخِذُ موقِفًا من هذا الحدث. هذا هو معنى اللِّيتورجيا! في القديم، كانتِ الإمبراطوريّةُ الرُّومانيَّةُ تَجتمعُ لإقامةِ اللِّيتورجيا الخاصّةَ بها، الّتي تقومُ على مناقشةِ الأوضاعِ العامّةِ في الإمبراطوريّةِ واتِّخاذِ المواقفِ منها، وتحديدِ مستقبلِها. وهذا ما نقومُ به في القدَّاسِ الإلهيّ، إذ نتذكَّرُ ما قام به الربُّ يسوعُ من أجلِنا في التَّاريخ، ونتَّخذُ موقفًا منها، فنَطرحُ السّؤالَ على ذواتِنا: هل نريدُ هذا الإلهَ مُخَلِّصًا لنا؟ هل نَقبلُ بِعَمَلِه الخلاصيِّ الّذي قامَ به من أجلِنا؟  فإذا قَبِلْنا به، ننالُ حظوةً ونِعمةً من الربّ.

إخوتي، إنّ إلهَنا ليس إلهَ مكان، لذا هو يرفضُ أن يبنيَ له شعبُه هياكلَ على شَكلِ معابدِ الوثنيِّين، لأنّ الوثنيِين يقومون بِحَصرِ آلهتهِم في المعابد، والربُّ لا يمكنُ حَصرُه في مكانٍ محدَّدٍ، لأنّه موجودٌ في كلِّ مكانٍ. في العهدِ القديم، أنشأ الشَّعبُ اليهوديّ، في أيّامِ الـمَلِكِ داود، هيكلاً للهِ وحَصَره في داخلِه، فرفضَ الربَّ هذا الأمرَ فقامَ بتدميرِ هذا الهيكل، ولكنَّ الله وَعَدَ داود الـمَلِك بأنّ الـمُخلِّصَ، أي المسيحَ، سيأتي مِن نسلِه. إنّ حَصرَ اللهِ في مكانٍ مُحدَّدٍ يعني أنّنا جَعلناه صَنمًا، وهذا ما لا يرُضي الله. 

إخوتي، عندما نقومُ بإنشاءِ مزارٍ معيَّنٍ لقدِّيسٍ ما، أو عندما نقومُ برحلةٍ حجٍّ ما إلى مكانٍ مقدَّس، علينا الانتباهُ إلى الذِّهنيّةِ الّتي نستندُ إليها عند قيامِنا بهذه الأمور: فالربُّ أو القدِّيسُ الّذي نزورُه لا يتواجدُ في هذا المكانِ أو ذاك، بل هو موجودٌ في كلِّ مكانٍ، وبالتَّالي يمكنُنا التَّواصلُ مع اللهِ أو مع هذا القدِّيسِ مِن خلالِ الصَّلاةِ إليه في أيِّ مكانٍ، وليس فقط في المكان الـمُخصَّصِ لزيارةِ هذا القدِّيس. إخوتي، عندما آمنّا بالربِّ يسوع، دَخلنا معه في يوم القيامة، وبالتَّالي لَم نَعُد بحاجةٍ إلى مكانٍ للحَجِّ إليه، فمَكانُ الحجِّ أصبحَ حالةً تعبيريّةً عن الإيمانِ بالله لا هدفًا له. هنا، سوف نتطرَّقُ إلى موضوعِ النُّذوراتِ الّتي جعلَها المؤمنون نوعًا من الرَّشاوى الّتي يُعطونها للّهِ في سبيلِ حثِّه على تحقيقِ أُمنياتِهم. وإليكم مِثالاً على ذلك: يقومُ البَعضُ بنَذرٍ يقوم على تقديمِهم كميّةً من الزَّيتِ أو مِن الشُّموعِ للكنيسة، في حالِ نجاحِ ابنِهم في الامتحاناتِ المدرسيّة. 

إخوتي، إنّ اللهَ لا يمكنُه أن يُحقِّقَ مِثل هذه الأهدافِ الدُّنيويّةِ للإنسانِ، فالنَّجاحُ يتطلَّبُ دَرسًا من المتعلِّمِ، وبالتَّالي إن لم يَدرسْ هذا الأخيرُ، لا أملَ له في النَّجاح. كُلُّ ما يستطيعُ اللهُ أن يفعلَه في هذه الحالةِ، هو مساعدةُ المتعلِّمِ على تَذكُّرِ ما دَرَسَه. إذًا، لا علاقةَ للهِ في نجاحِ هذا الإنسانِ أو في رسوبِه. إخوتي، عليكم إحضارُ الأغراضِ الّتي وَعدتُم بها اللهَ إلى الكنيسة،حتّى قبلَ أن تتحقَّقَ آمانيكم، -مع العِلم بأنّه لن يستفيدَ منها هو بل الكنيسة-، وذلك تعبيرًا عن إيمانِكم بأنّ اللهَ سيستجيبُ لكم، إن كانت طِلباتُكم تُساهِمُ في خلاصِكم. 

إنّ الكنيسةَ تقومُ بِتَوزيعِ ما أتيتُم به مِن أغراضٍ على الّذين يحتاجون إليها. هذا هو مفهومُ النَّذرِ الحقيقيّ: ان تَطلبَ من اللهِ مَدَّكَ بالعون، ومن خلالِ إحضارِكَ الأغراضَ الّتي وَعدْتَ بها تُساهِم في مدِّ يدِ العَونِ إلى إخوةٍ بحاجةٍ ليس بمقدورِهم شراءُ ما قُمتَ بِجَلِبِه إلى الكنيسة. من هنا، نفَهمُ الصَّلاةَ الرَّبّيَةَ الّتي علَّمَنا إيّاها يسوعُ الّتي نقول فيها: “إغفرْ لنا خطايانا كما نَحن نغفر لِمَن أخطَأ إلينا”. من خلالِ هذه العبارةِ، نطلبُ من الله أن يَغفرَ لنا خطايانا، كما نَحن نفعلُ مع إخوتِنا، وبالتَّالي، فإنّ المبادرةَ تأتي مِن قِبَلِنا. ولكن إذا انتظرْنا كي نشعرِ بمغفرةِ اللهِ لنا كي نبدأَ بالمغفرةِ للآخَرين، فإنّنا نُصبحُ في هذه الحالةِ مُبتَّزين لله، إذ نعملُ على رشوتِه للحصولِ على مغفرتِه. 

إخوتي، حذارِ مِن اللُّجوء إلى منَطِقِ الرَّشوةِ للهِ على الطريقةِ اللّبنانيّةِ في صلواتِكم أو نُذوراتِكم. إنّ الرَّشوةَ في المفهومِ اللِّبنانيِّ هي نوعٌ من بَدَلِ أتعابٍ تُعطى للموظَّفِ من أجلِ تسهيلِ المعاملةِ الّتي نقومُ بها. إنَّ الرَّشوةَ هي لِباسٌ تُقويّ مُقنَّع.

إخوتي، إنّ القداسةَ الّتي نسعى إليها جميعُنا، مبنيّةٌ على الفَهم لا على العِلم. إنّ الخبرةَ أظهرَتْ أنّ الّذين لا يعرفون اللّاهوتَ هُم مَن يتقدَّسون، لأنَّهم فَهموا اللّاهوت. وفي هذا الإطارِ، يقولُ لنا القدِّيس إفغاريوس البُنطيّ: “اللّاهوتيّ هو الّذي يُصلِّي؛ والّذي يُصلِّي هو لاهوتيّ”، أي أنّ الّذي يُصلِّي يُدرِكُ ما الّذي يقولُه وما الّذي يَفعلُه، وكيف يَسلُك. إنّ الصَّلاةَ لَيسَتْ مواجهةً ثنائيّةً بين اللهِ والإنسان، بل هي مواجهةٌ ثلاثيّةٌ الأبعادِ أي أنّها مواجهةٌ بين اللهِ والإنسانِ والآخَر. إنّ علاقتَكَ مع الله تَظهرُ مِن خلالِ علاقتِكَ مع الآخَر. وفي هذا الإطارِ، يقولُ لنا يوحنَّا الرَّسول: 

“إِنْ قَالَ أَحَدٌ: “إِنِّي أُحِبُّ اللهَ” وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ وَلَنَا هَذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً.” (1 يو 4: 20-21). هنا يستخدمُ الإنجيليُّ يوحنّا عبارةَ “كاذب”، وهي العبارةُ نفسُها الّتي استخدمَها الربُّ يسوع في وَصفِه الشَّيطانَ إذ قالَ فيه إنّه:” كَذَّابٌ وَأَبُو الْكِذْبِ” (يو 8: 44). 

بحسْبِ الإنجيليِّ يوحنَّا، حين تقولُ إنَّك تُحبُّ الله وأنتَ تُبغِضُ أخاك، أنت تَكذِبُ وتُصدِّقُ كِذبَتَك. وهنا نَطرحُ السّؤالَ: أيُّها المؤمِنُ، هل تعتقدُ أنّ اللهَ لا يَعلَمُ أنَّك تَكذِبُ عليه؟! إخوتي، على كلِّ واحدٍ منّا أن يعيدَ قراءةَ تصرّفاتِه وسلوكِه في الكنيسة، فيُدرِكَ إن كان هناك من سلوكٍ وثنيٍّ أو يهوديٍّ في حياتِه، أم أنّ سلوكَه هو فِعلاً سلوكٌ مسيحيٌّ. وإليكم مِثالًا عمَّا أقول: إنّ البعضَ يؤمِنون بضرورةِ التَّبخيرِ أثناءَ الصَّلاةِ لتَكونَ صلاتُهم مقبولةً وخصوصًا في صلواتِ الجماعةِ، كالقدَّاس مَثلاً. فإذا امتَنَعَ يومًا الكاهنُ عن التَّبخيرِ، وَجدوا في تصرُّفِهِ هذا مشكلةً كبيرة. 

هنا، علينا أن نتذكَّرَ قَولَ صاحبِ المزامير:”لتَكُنْ صلاتي كالبَخورِ أمامك” (مز 141: 2)، وهذا يعني أنّ صلاتَنا هي بمثابةِ بَخورٍ أمامَ الربِّ، وبالتّالي لا ضرورةَ للتَّبخير. ولكنْ، هذا لا يعني الامتناعَ عن التَّبخيرِ، بل يعني أنّه لا مشكلةَ في حالِ عدمِ وجودِ بخورِ من عدمِ التَّبخيرِ أثناءَ الصَّلاة. إنّ البخورَ الحسيَّ الموجودَ عندَنا هو مُساعدٌ للصَّلاة، فالبَخورُ من شأنِه أن يُساعِدَ حواسَّنا على الانتعاشِ وعدمِ التَّشتُّتِ: فَصَوتُ المبخَرةِ ورائحةُ البَخورِ مِن شأنهِما أن يساعدا حاسَّتَي السَّمعِ والشَّمِ عندَ المؤمِنِ في العودةِ إلى الصَّلاةِ في حالِ التَّشتت. إذًا، البَخورُ يساعدُ المؤمِنَ على تحسينِ نوعيّةِ صلاتِه، فتُصبحُ كالبَخورِ أمامَ الله. لاحظتُم الحوارَ بينَ الإنسانِ والبَخورِ في الكنيسة؟!

 عندما يُبخِّرُ الكاهنُ في الكنيسةِ، ترسُمُ، أنتَ المؤمنَ، إشارةَ الصَّليبِ على وَجهِكَ. مِن خلال البخور، لا يُعطِيكَ الكاهنُ بَرَكةً، إنَّما يُذكِّرُكَ بِضَرورةِ الاستقامةِ في الصَّلاةِ والإنشدادِ نحوَ الله، مبتَعِدًا عن كُلِّ تشتُّتٍ بأمورِ هذه الدُّنيا، ففي الصّلاةِ، علينا أن “نَطرح عنّا كلَّ هَمٍّ دُنيويّ لنستقبلَ مَلِكَ الكُلّ”، كما نرتِّلُ في القدَّاسِ البيزنطيّ. عندما يقومُ الكاهنُ بالتَّبخيرِ، فإنَّه يقولُ لكَ إنّ اللهَ يراكَ قدِّيسًا على الرُّغمِ من خطاياكَ الّتي تَغرقُ بها، لذا كلَّفَهُ اللهُ بتَبخيرِكَ أيُّها القدِّيسُ في عينَي الله، فيَكونُ جوابُكَ على هذا التَّبخيرِ بِرسمِ إشارةِ الصَّليبِ قائلاً: “ليس قدُّوسٌ إلّا الله”، مُعلِنًا بِذَلِكَ مَجدَ الله. إذًا، من خلالِ البخورِ، أنتَ تقومُ بحوارٍ بينَك وبين البخور. 

إنّ صَوتَ المبخرةِ ورائحةَ البخورِ يُذكِّران المؤمِنَ بأنّه واقفٌ لا أمام صَنمٍ، إنّما أمامَ اللهِ الحيّ، الّذي خَلق السّماءَ والأرضَ وكلَّ ما فيها، والّذي خلق الإنسانَ وخلَّصَهُ من خلالِ موتِ الربِّ يسوعَ وقيامتِه من بينِ الأموات. إذًا، في الصَّلاةِ، أنت تَقفُ أمامَ اللهِ الّذي وَعَدَك بأنَّه سيمسَحُ كُلَّ دَمعةٍ عن وَجهِك. هنا، نتذكَّرُ كلمةَ النبيِّ إيليّا الّذي قال: “حيٌّ هو اللهُ الّذي أنا واقفٌ أمامَه” (1 مل 18: 15).

 إخوتي، إنّ خطورةَ لجوئِنا إلى القدِّيسين تكمنُ في أنّنا نحوِّلهُم إلى أصنامٍ تتحرَّكُ وِفقَ مشيئتِنا. وهنا أودُّ أن أُوضِحَ أمرًا: أنا لا أرفضُ أيَّ تَصرُّفٍ أو تعبيرٍ كنسيٍّ تقومون به، فأنتم أحرارٌ في ارتداءِ أيِّ ثوبٍ لأيِّ قدِّيسٍ كان؛ ولكنْ أدعوكم أن تسألوا ذواتِكم هذا السُّؤالَ قَبلَ قيامِكم بأيِّ تَصرُّفٍ كنسيّ: لماذا نريدُ أن نرتديَ هذا الثَّوبَ أو نقومَ بهذا النَّذر؟ ما هو السَّبب؟ وما هو الهدف؟ إخوتي، إنّ كلَّ تَصرُّفٍ كنسيِّ تقومون به، من شأنِه أن يُساعدَكم على أن تُشابهوا المسيحَ يسوعَ في علاقتِهِ بالآبِ السَّماويّ الّذي صلَّى لأجلِنا قائلاً: “ليكونوا واحدًا كما نحن واحد”(يو 17: 21)، فتُجسِّدونها في علاقتِكم مع الآخَرِ المحيطِ بكم؛ فتُصبحُ ذاكِرَتُكم مزَّخمةً بالإنجيلِ، فتتذكَّرون كلماتِ الإنجيلِ في كلِّ لحظةٍ وكلِّ موقفٍ من حياتِكم، ويُصبحُ عقلُكم مُنبِّهًا لكم إذ يذكِّرُكم بكلماتِ الله، وكلماتِ القدِّيسين، وكلماتِ صلواتِكم. 

من هنا، تستطيعون أن تَفهموا معنى عبارةِ: “عجيبٌ اللهُ في قدِّيسيه”، إذ في كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ موقفٍ تُظهِر عجائبَ الله الّـتي فيك. إخوتي، إنّ عجائبَ اللهِ لا تَقتصرُ على تلك الّتي يتمُّ الإعلانُ عنها على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، بل تستطيعون اختبارَها في كلِّ لحظةٍ من حياتِكم اليوميّة. عندما تستيقظُ في الصَّباح، أُصرخْ إلى الربّ قائلاً: “عجيبٌ اللهُ في قدِّيسيه”، لأنَّ آخرين لم يستطيعوا أن يستيقظوا من نومِهم الأرضيّ. عندما تتناولُ طعامَكَ، أشكرِ الربَّ على ذلك صارخًا له:”عجيبٌ اللهُ في قدِّيسيه”، لأنَّ آخرين لا يمتلكون هذه النِّعمة. في كلِّ صباحٍ، يمنحُكَ الربُّ فرصةً جديدةً، لذا كُن في حالةِ تمجيدٍ وتسبيحٍ للهِ وذِكرٍ دائمٍ للهِ طيلةَ اليومِ وعلى مدى السَّاعات. وبالتّالي، إذا كنتَ في حالةِ تمجيدٍ دائمٍ للربّ، فلن تمتلكَ الوقتَ لارتكابِ الخطايا.

في العودةِ إلى نصِّ الإنجيلِ الّذي نتأمَّلُ به اليوم، نقولُ، إنّ الرُّسُلَ قد خافوا لأنّهم ظنّوا أنّ الربَّ يسوع شبحًا، عندما رأوه ماشيًا على الماء. إنّ السَّيرَ على الماءِ يُشيرُ إلى وجودِ احتماليّةٍ للغَرقِ، فالماءُ يرمزُ إلى الموت. من خلالِ مجيئِه إلى تلاميذِه ماشيًا على الماء، لم يكنْ هدفُ الربِّ إظهارَ ذاتِه كَبَطلٍ خارقٍ أمامَ تلاميذِه، بل كان هدفُه أن يُخبرَهم مسبقًا بأنّه سيموتُ وأنّه سينتصرُ على الموتِ بالقيامة. لقد جعلَ الربُّ يسوعُ المياهَ يابسةً، لتطمَئِنَّ قلوبُ تلاميذِه وقلوبُ المؤمِنين به، قائلاً لهم: “ثقوا،  أنِّي غلبتُ العالَم” (يو 16: 33). إذًا، من خلالِ سَيرِه على المياهِ، أرادَ الربُّ أن يُخبرَ تلاميذَهُ بأنَّ عليهم الاطمئنانَ وعدمَ الخوفِ لأنّه انتَصرَ على كلِّ قِوى الموتِ، وأنّه سيمنحُهم بموتِه الحياةَ الأبديّة.

النّص الإنجيليّ: (مر 6: 53- 56)

“فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ. فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ، وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ”.

شرح النّص الإنجيليّ:

إنّ مدينةَ جَنيِّسارات هي مدينةٌ أُمميّةٌ، أيْ إنّها مدينةٌ وَثنيّة. في نهايةِ هذا الإصحاحِ، أرادَ الإنجيليُّ مَرقس أن يُظهِرَ سُلطانَ يسوع. في الإصحاحِ السّابعِ، سيُخبرُنا الإنجيليُّ مرقسُ عن صِراعِ يسوعَ مع الفِكرِ اليهوديِّ الفرِّيسي، من خلالِ حادثةِ شفاءِ الأعمى.

أتمنَّى مع بدايةِ زمنِ الصَّومِ، أن نكونَ قد دَخلْنا في جوٍّ جديدٍ، فنصومَ أو نمتنعَ عن ذلك، مُدرِكين سببَ قيامِنا بهذا التَصرُّفِ أو ذاك. إذا أكلتَ أو لم تأكلْ، تذكَّرْ أنّ هناك إنسانًا آخرَ أمامَك، لن تدخلَ الملكوتَ إلّا وأنتَ متأبِّطٌ ذراعَهُ. آمين.

ملاحظة: دُوّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp